الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009

ملتقى جوبا - إلى المؤتمر القومي الدستوري هل من سبيل؟

بسم الله الرحمن الرحيم


بقلم / خليفة محمد الطيب السمري – المحامي

جاءت اتفاقية السلام الشامل "نيفاشا" كلها ثقوب ليس مثل الجبنة السويسرية وحسب على حد وصف السيد الصادق المهدي لها ،وإنما كانت غربالاً تساقطت كل آمالنا خلال ثقوبه الوسيعة ،فكم كان الناس يؤملون خيراً في هذه الاتفاقية كوسيلة لبناء سودانٍ ديمقراطي موحدٍ وجديد ،لكن الأيام سفهت أحلامنا وتلاشت أمانينا الكواذب مع أول هبة ريح ،وصدق حدس السيد الصادق المهدي ففعلاً قد جاءت الاتفاقية كلها ثقوب ،وما نزاع أببي والخلاف على البترول وقانون الاستفتاء ..إلخ المشكلات إلا شواهد على تداعي الآمال والأحلام وتباعد الشقة بيننا وبين بلوغ غايتنا "بناء سودانٍ موحدٍ وديمقراطي" ،فهاهي الأمور سفرت على حقيقتها بعد أن انزاحت عن الأعين غشاوة فرحة السلام.لقد عشنا تطبيق نيفاشا واقعاً عملياً كشف الأمور على حقيقتها ووضح مواطن الخلل فيها على نحوٍ يراه من به رمد ويدركه العي البليد ، فالخلل الأكبر والجوهري في نيفاشا في الحقيقة أمرٌ يتجاوز العبارة وصياغة النصوص ، الخلل الأكبر في نيفاشا في حقيقة الأمر هو انفراد طرفين فقط من بين كل القوى السياسية بأمرها ،مع أن موضوعها شأنًُ يخص كل أهل السودان دون استثناء أحد ، فهل يا ترى يدرك القائمون على ملتقى جوبا المزمع انعقاده خلال الفترة من 11-15 سبتمبر الجاري هذا الخطأ ،وهل يا ترى تتوفر لديهم الإرادة المجردة من الأهواء التي بها يجعلون مشاركة الجميع مشاركة فاعلة تفتق الأذهان عن رؤى وتصورات مبدعة تتجاوز بنا المحن وتدركنا بعد هذا القعود، أم أن الأمر لن يعدون أن يكون دعوة جَفَلى تنفض بعشاء الآدبين ؟. هذا ما ستكشف عنه الأيام القريبة القادمة،لكني في الجملة أجد نفسي غير متفائل بسبب ما عهدناه في الصراع السياسي السوداني من سلبيات تبذر في النفس الشك وتذهب عنها دفء اليقين ،فالمتأمل في حركة التاريخ السياسي في سودان ما بعد الاستقلال يلحظ بلا شك ضبابية الرؤية و تحكم الأهواء مع غياب توازن القوى بين الفعاليات السياسية السودانية ،فقد ظلت كفة الميزان راجحة دوماً لمصلحة طرفٍ واحد أو أطراف قلائل يسعون بجهدٍ جهيد إلى كتابة الفصل الأخير في تاريخ السودان مع التورط في خلة إقصاء الآخر ووهم تضخيم الذات،وهذا في ظني هو أس البلاء الذي تعاني منه السياسة السودانية ،ولا حل لأزمة الحكم في السودان إلا بإبداع بسلمٍ يشفي من أدواء هذا الفيروس القاتل،وهو للأسف فيروس لا يموت لكنه يتحور ليؤذي المواطن الكادح البسيط لا النخب الحاكمة التي تكافحه بمضادات عدم تفريطها في مصالحها الشخصية ،ولكن نظرتها الآنية هذه لا شك ستصيبها في يوم من الأيام بفقدان المناعة يوم أن يصطرع الكل ضد الكل لا بالحوار الهادي والنقاش النابه وإنما بالدانة والكلاشنكوف ، فهل تحسبنا لذلك وتداركناه قبل أن يأخذنا في غمرته الطوفان؟.أقول هذا ويغلب الظن عندي أن الإقصاء وغياب توازن القوى في وسطنا السياسي سببه عاملٌ متجذر في حنايا لا شعورنا وضاربٌ في أعماق ثقافتنا "ثقافة مجتمعات البداوة في كل السودان شمالاً وجنوبا "، فقد لاحظ ابن خلدون من قبل مجتمعات العرب كنموذج للبداوة وخلص في مقدمته إلى أن المغالبة هي السمة السائدة في سياسة الحكم عندهم، وأن الغالب تخضع له الجماعة خاصة في الدور الأول للدولة ،فإذا ركن الغالب إلى النعومة والدعة ظهرت قوة خشنة تغلبه إلى أن تنعم هي الأخرى فتقفز غيرها على هذا النحو من الدور،أما أن يحفظ للمغلوب حقه السياسي بالتبشير بفكره وطرحه على نحوٍ مسالم فذلك أمرٌ يدخل في دائرة المحظور ولا يعني أهل البداوة في شيء، وللأسف فقد تواطأ المجتمع السوداني على هذا الفهم حتى أن الخضوع للمتغلب أصبح ضرباً من الحيلة والدهاء يندرج في باب المدح لا الذم والقدح ، ولم يبخل موروثنا الشعبي بتوفير التبريرات لهذا السلوك الذميم " العندو الرئاسة ما تكمِّل معاهو الفراسة ".إن المتأمل في ديناميكية الحياة السياسية السودانية يجدها لا تبعد كثيراً عن هذا المنحى المخاتل الذي هو سبب البلوى،منحى المغالبة والخضوع لمن غلب بالقوة الخشنة ،مع أنه في حقيقة الأمر ليس للغالب من قوة إلا القوة التي يمنحها له المغلوب ،فإذا قوي المغلوب عادت بنا الدوائر إلى الصراع الخشن مرةً أخرى وهذا ما أوذينا منه في السودان كثيراً،ولا مخرج من ذلك إلا أن تجمع كافة القوى السياسية على أمرٍ واحد مقتضاه عدم السماح لأي كائنٍ من كان بمفرده أن يزعم لنفسه كتابة الفصل الأخير في تاريخ أمة يقرب تعدادها من الأربعين مليون ، فمصير الجميع ينبغي ألا يقرره نفرٌ قليل وألا تتحكم فيه رؤية واحدة وإلا فإننا سنبقى ندور في دائرة الفشل إلى ما لا نهاية والتاريخ خير شاهد على ذلك ، فهل يا ترى تتوفر لدى القائمين على أمر ملتقى جوبا الإرادة التي تتحلل من هواها لتنجز هذا العمل العظيم؟.عند فجر الاستقلال أرادت القوى المتغلبة في برلمان الحكم الذاتي أن تكتب التاريخ وحدها فكان زعيمها الأزهري ذلك المحنك الذي لا يلوى ذراعه رباناً لهذه الكتابة فماحك الجنوبيين في مطالبهم واستجاب لبعضها مضطراً لا لشيء إلا لأن الإنجليز جعلوا إجماع برلمان الحكم الذاتي شرطاً لازماً للاعتراف باستقلال السودان وكان هذا البرلمان يضم فيمن يضم نواب الجنوب ،ومن هنا كان الوعد لهم بأن يتشاركوا الحكم مع بقية أهل السودان بوسيلة الفدرالية التي طلبوها لكن للأسف بعد أن حققت القوى الغالبة بغيتها من هذا الوعد وهو القعود على مقعد الحاكم العام والانفراد بحكم البلاد أنكرت أصحاب الأمس من الجنوبيين ورمت من والاهم من أهل الشمال بالخيانة والمروق، فكان هذا الدهاء السياسي نذير شر على أهل السودان ومستصغر شرر سرعان من اتسعت نيرانه وشبت فأعيت الطافي ،وشهدت البلاد ذلك التمرد الذي كانت الحرب وسيلة علاجه الوحيدة على أيام الفريق إبراهيم عبود ،وجاءت أكتوبر واحد وعشرين لتعقد مؤتمر المائدة المستديرة الذي تمخض عن نتائج طيبة سرعان ما أفرغتها القوة الغالبة من مضامينها إلى درجة أنها أوجدت تفسيراً جديداً لمفهوم الأغلبية والأقلية الديمقراطيين،ففي كل بلاد الله لا تستطيع الأغلبية مهما كثرت أن تمس الحقوق الدستورية للأقلية مهما تضاءلت وصغرت هذه الأقلية ،إلا أن السودان خلافاً لذلك شهد طرد الشيوعيين من البرلمان استناداً إلى آلية الأغلبية الميكانيكية في البرلمان مع أن الأغلبية الميكانيكية حدود صلاحياتها التشريعات العادية والبرامج المتعلقة بالسياسة التنفيذية للدولة ولا يجوز لها الولوج في التشريعات الدستورية إلا بوسائل جامدة تعرفها كل الديمقراطيات عدا ديمقراطية أهل السودان ، هذه الغلبة جعلت جماعة اليسار لا تتورع هي الأخرى عن التورط في نوعٍ من الإقصاء أشد قسراً وعنفا فكانت مايو فجر الثورة وهيمنة اليسار وباقي القصة معروفة للجميع ،جاء ت مايو وفي جعبتها سلام منقوص سبب نقصه أنها أرادت أن تكتب الفصل الأخير في تاريخ جمهورية السودان ففشلت هي الأخرى حين أقصت الجميع ووقعت اتفاق أديس أبابا مع بعض القوى السياسية الجنوبية التي ظنت هي الأخرى بأنها كاتبة الفصل الأخير في تاريخ الجنوب المكلوم،وما لبثنا قليلاً حتى رأينا تداعي النوائح لندب أديس أبابا التي أصبحت أثراً بعد عين ،لا لسبب إلا لأنها أرادت أن تقول القول الفصل في مصير أهل السودان قاطبة بدون مشاورتهم أو الاستماع إلى أرائهم التي تلاشت في المدى وجاء رجع صداها من القوى الغالبة قهراً وتخويناً ،ثم ما لبثنا أن شهدنا المصالحة الوطنية في 1978م بين غالب ومغلوب جنح إلى المكر والدهاء يوم أن عجز عن حمل السلاح بعد فشل مخططه لقلب نظام الحكم وعشنا أيضاً وعاش الشعب وقرأنا جميعاً القصة إلى نهايتها المفجعة،جاءت رجب المباركة - حسب توصيف الشعب الطيب لها - وشهدنا كوكادام التي اعتقد أنها حاولت إشعال شمعة في الظلام الدامس حين أمنت على أن مخرج أهل السودان في المؤتمر القومي الدستوري الجامع الذي ينبغي أن يضع لبنات شكل الدولة ويفصل لها دستورها بعد مشاورة كافة أهل السودان عبر الوسائل التي تمكن القوى السياسية من التعبير عن رؤاها وإشراك الجميع في حلم بناء الوطن بغض النظر عن الحجم والقوة ،إلا أن الشمعة سرعان ما أطفأتها هوج الرياح يوم أن تسارعت القوى الغالبة إلى تعجيل العملية الانتخابية لتسفر لنا عن المسرحية الديمقراطية السخيفة الهزيلة التي شهدنا فصولها بغير قليلٍ من الاستياء والملل ،فهي بالحق هزيلة حال كونها لم تقو حتى على حفظ نفسها ناهيك من أن تقدم شيئاً للمحزونين والغلابة الذين طال انتظارهم في سموم حر السياسة السودانية.وأخيراً داهمتنا الإنقاذ ،مع أن بعض النابهين من أبناء الحركة الإسلامية نبهوا على خطورة الولوج في هذا الطريق الشائك ، فمن جرب المجرب حصد الندامة ، جاءت الإنقاذ وكانت الغلبة لها لأنها اخشوشنت يوم أن نعُم السيد الصادق ورفاقه ،وفي هذا الصدد يكاد المرء يجزم بأن ناموس ابن خلدون وقوله بالمغالبة لا يصدق على ساسة بلد من البلدان مثلما يصدق على ساسة السودان ، جاءت الإنقاذ بعقيدة لا ترى إلا اللون الواحد موقنة بأنها ستكتب الفصل الأخير لا لأهل السودان بل للعالم قاطبة وكانت في عين أهلها الأوائل أن فكرتها هي عين ما عناه فوكوياما في أطروحة نهاية التاريخ،فلا تاريخ أبدأ بعد المشروع الحضاري الإنقاذي، هذا الاعتقاد الجازم أخرجها أحياناً من دائرة مقولات ابن خلدون عن مداهنة المغلوب للغالب ،لأنها في بدايتها ما كانت تسمح لغير بني جلدتها بشيء من القسمة الضيزى ،فهجر المغلوبون السودان لا زهداً في القطمير ولكن لأن الإنقاذ أبت عليهم حتى مثقال الذرة من المغنم ،لكن ناموس ابن خلدون العجيب دوماً يفعل فعله ،فهو القائل في مقدمته أن المرحلة الأولى من الدولة تتناصر فيها القوة الغالبة ولما تتمكن من الحكم يبدأ أفرادها يبحثون عن المجد ولن يمجدوا إلا بإزاحة من يعترضون هذا المجد من شركاء المغالبة ،وبعد الإزاحة يتحقق المجد ثم تعقبه الدعة والتنعم وفساد المال ثم الدخول في طور التدهور والانحلال .يوم أن سرى هذا الناموس على الإنقاذ بدأ الوهن يدب في عضدها الفتي إلى أن خارت بعض قواها وهذا هو اليوم الذي قبلت فيه إعطاء القطمير ،وكان البدء مع ريك مشار ورفاقه الميامين الذين وقعوا اتفاق الخرطوم للسلام ،طرفان توافقا على تقرير مصير السودان وما لبث أن لحق بهما الوطني جناح الهندي ثم الأمة الإصلاح ولفيفاً من الأفراد ..إلخ منظومة المغلوبين على أمرهم الذين اختاروا المخاتلة والدهاء سلاحاً وسبيلا ، وبما أن هذه التلاقحات في أغلبها زيجات مصلحة فإنها لم تصمد أمام تداعي الحدثان ،فمشكلات السودان أطرافها هم أهل السودان جميعا لا حزبٌ خشنٌ غالب وأقليات تأكل على فتات الموائد ،وما لم يستمد الحاكم شرعيته من التراضي المتولد من إشراك الجميع فإنه لن يحكم بأمانٍ واطمئنان وإن تراءى له ذلك ،فحكماء الصين قديماً قالوا يمكن أن تجئ على أسنة الرماح لكن يستحيل أن تجلس عليها.تجاوزت الإنقاذ كل أولئك الصغار ومالت تحت الضغط إلى نمرودٍ خشن في يده قوة مادية مهولة وحفز معنوي من دولٍ كبرى ،ومالت الإنقاذ هذه المرة تلقاء الحركة الشعبية التي اعترفت بها على مضض رغم الرفض الذي استمر سنين عددا لمبادرة إيقاد إلا أن قوة الخصم وإمكاناته أجبرتها على الجلوس معه وتطويل الأنفاس على نحوٍ لم تعرفه الإنقاذ مع من قالت لهم تطهروا من ماء البحر الأجاج، وفي نشوة غزل التفاوض تورط الطرفان في خطأٍ مقاتله كانت عددا حين ظنا أن ما في أيديهما من قوة مادية كفيلٌ – إذا ما تشاركا – بكتابة الفصل الأخير في تاريخ السياسة السودانية ويوم أن تنادى من صفرت أيدهم من القوة الخشنة يطلبون المشاركة في أخطر أمر يهم كافة أهل السودان أبى طرفا القوة الراجحة إلا أن يتفردا بالمجد الماجد ،وذراً للرماد في العيون ظل كليهما يرمي على الطرف الآخر لائمة إقصاء القوى السياسية من المشاركة في مفاوضات السلام ،وأبى الاثنان إلا أن يقررا مصير أهل السودان باتفاقية هي في الحق تمثل من الناحية الفنية القانونية دستوراً يحكم السودان من غير استفتاء أهله عليه أو إشراكهم في أمره ، ورغم أن نيفاشا قد وجدت من الناس ترحيباً وثناءً عطراً لحقنها الدماء إلا أن كثيراً منهم لم يفطنوا إلى مآل وآثار الإقصاء الذي اكتنفها إلا بعد أن دخلت حيز التنفيذ وتعثرت عجلاتها بسبب تشاكس السائقين وقراءاتهم المتخالفة لنصوص الاتفاق،وإني في هذا الصدد لأعتقد بمثل اليقين في نفسي أن سبب التعثر وأس البلاء لم يكن رمادية النصوص وحدها وإنما سببه الأهم يتجسد في انفراد قوى سياسية دون البقية بتقرير مصير أهل السودان ،وإني لاعتقد أيضا بما يقارب الجزم واليقين أن الصراع الخشن لن يتوقف أبداً ما لم يحدث اعتراف متبادل بين كافة ألوان الطيف السياسي السوداني ،اعتراف يؤمن بلا مورابة بمبدأ أن الحرية لنا ولسوانا ،فوفق تيموس هيجل كل إنسان يسعى لانتزاع اعتراف الآخرين به ولن يتوقف هذا الصراع بين بني البشر في رأي فوكوياما إلا بإبداع الوسيلة التي تحقق هذا الاعتراف المتبادل لكل الناس ، ولم تبدع البشرية حتى الآن وسيلة لوقف الصراع وتبادل الاعتراف أبدع من الديمقراطية التي يتشارك فيها الجميع بناء الوطن الجديد الموحد،وفي نظري لن يتحقق هذا الحلم إلا عبر مؤتمر قومي جامع تشارك فيه كل القوى والفعاليات السياسية صغيرها قبل كبيرها فهل يا ترى يكون ملتقى جوبا نواةً لهذا المؤتمر الجامع؟ هذا ما نصبو إليه،فإن كان شريكا الحكم يريدان للسودان خيرا ً فليشمرا ساعد الجد لإنجاح هذا المشروع وتطويره ليكون ملتقى جامعاً يناقش كل مشكلات السودان ويخرج بما يكون محلاً لرضا الجميع ،وإلا فالطوفان قادم ،فالضعيف اليوم سيقوى غداً ويمارس ما يمارسه أقوياء اليوم ونظل ندور في دوامة الصراع إلى ما لانهاية وربك يكفينا الشرور.والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل ،،،خليفة محمد الطيب- المحامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق