الخميس، 17 فبراير 2011

ولتسقط برلين

تبسيط الأمور، وتعبيط البشر، وتهوين الكوارث، هي في الحقيقة مسائل تحتاجُ إلى مهاراتٍ خارقة، و إبداعٍ بريع، يصنع من الفشل نجاحاً، ومن الإخفاق عبقرية، ومن الفسيخ شربات، ومثل هذه المهارات الخارقة هي في الحقيقة نعمةٌ يُلَطِّف الله بها علينا المصائب، وتُلهمنا السلوى بدلاً عن ركوب الأحزان والسفر برفقةِ اليأس والإحباط، ولكنها من الجانب الآخر تذكرني، بقول الدكتور زكي مبارك بصدد نقده للتصوف «إنه وصفة شعبية لعلاجِ اكتئابٍ اجتماعي»، وما أكثر الوصفات والتعويذات السياسية «الشعبية» التي تزيد الأمر ضِغثاً على إبالة في هذا الزمان الأغبر، وهي في حقيقة أمرها هروبٌ من النفس، وجفول من المسؤولية والمُساءلة، بل تنطوي على قدرٍ كبير من تهوين الآخر وعدم تقديره، فكيف بنا إن كان هذا الآخر شعب أنجب الإمام المهدي و ود تورشين والنجومي، ومن رحمه ولدت ثورة «أربعة وعشرين» بعبد اللطيف وماظِ، وفي كنفه نهض رجال في قامة السادة عبد الرحمن المهدي والأزهري والمحجوب، وكوكبة مؤتمر الخريجين الذين ناضلوا من أجل الاستقلال، ومن أجل بناء السودان الواحد الموحد، شعب فجَّر اكتوبر وهزم الليل في أبريل، ومع ذلك أبى الزمان إلا أن يمتحنه بعادياتٍ تُذيب الحديد، وهل من بلاءٍ أكبر من أن يرى بلاده ه تتمزق شلواً إثر شلو، وتنقص من أطرافها مع إطلالة كل يوم جديد.
شعب هذه هي سجاياه، وهذه هي فطرته، وهذه هي طباعه التي نعرف، ومع ذلك تبلغ الاستهانة بأمره حداً يجعل قيادته تصور له فصل جزءٍ من أرضه على أنه ظفراً وانتصاراً، ويقال له بمنتهى البرود والهدوء «إن القيامة لن تقوم بفصل الجنوب»، فإن كان ذلك كذلك، فما الذي يمنع من أن يقال له يوم غدٍ «إن نهاية العالم لن تكون بقيام دولة دارفور»، أو أن يقال له بعد غدٍ إن انبثاق تقلي والمسبعات وسلطانات العبدلاب ومكوك الجعلين والشوايقة إلى حيز الوجود من جديد، هو رجوع بنا إلى عصر الحضارة والتأصيل، بل ما الذي يمنع أن يقال له إن الوصول بالبلاد إلى واقع ما قبل السلطنة الزرقاء جميعاً هو أمر قد ناضلنا لأجله، وقدمنا في سبيل بلوغه المهج والأوراح، كل هذا جائز في ظل المنطق الذي تدار به البلاد في هذه الأيام.
لكنه وأيم الله، إنه المين في ثوبٍ قشيب، والضحك على عقول البشر على نحوٍ يجعل المضحوك عليه يسخر من الضحَّاك، فقل لي بالله عليك، لماذا أبدت لنا الحركة الإسلامية هؤزأها و سخريتها، يوم أن وقف الدكتور عمر نور الدائم عليه رحمة الله مدافعاً عن مواقف حكومته التي ما بلغت السلطة بالدهاء ولا بالانقلاب، وإنما عبر صندوق انتخابٍ حرٍ شهد له العدو قبل الصديق، لماذا سخرت منه صحافة ذلك الزمان الحر، وقرصته قرصاً موجعاً، حين قال أمام البرلمان، في معرض حديثه عن تمرد الجنوب«إيه يعني سقطت الكرمك، ما برلين برضها سقطت»، هذا إذا علمنا أنه في تلك الأيام النواضر لم تطأ أرض السودان أقدام الأجنبي، ولم تُنجس طهارته بؤر المخابرات وأعمال الجواسيس، لا لشيء إلا لأنه كان محكوماً بإرادة أهله، التي غبطه عليها الأصدقاء، وحسدته بسببها دول عريقة، وأخرى ثرية لكنها غارقة في وحل سلب الإرادة حتى أخمص القدمين، بالأمس سقطت برلين السودان «الكرمك»، لكن اليوم سقط الجنوب كله، بل، إن سارت بنا الأمور على هذا النحو سيسقط السودان جميعاً، ويتداعى بأثره من الوجود، فما لي لا أرى الذين سخروا من سقوط برلين بالأمس، ما لي لا أراهم يحركون اليوم ساكناً، بل ليتهم اكتفوا بالسكوت، بدلاً من ذلك آذوا الشعب بتبريراتٍ لفشلهم وعجزهم أوهي من بيوت العناكب، وأسخف من نكات المتكلفين، ولا اعتقد أنه يجرؤ عليها إلا من منزع منه الحياء، أو ذهبت به «قوة العين مذهباً قصياً يتساوى فيه الشين والزين».
إن سخرية الأقدار جعلت من الذين تنادوا بالأمس لانقاذ البلاد من التمزق والتفتت والتشتت، جعلت من أنفسهم وقوداً لهذا التمزق والتفتت، كيف لا وقد بشرونا بأن السودان ذو البعد الواحد، ببزوغ شمس الانفصال، سيولد من جديد، بعد أن تلاشي ليل الوحدة الدامس التي لم ننال منها إلا التنوع المفضي إلى العنت والمشقة وتفاقم المشكلات، وكأني بالشمال قد أصبح على قلب رجلٍ واحد، لا ذلك الشمال الذي نعرف ولا نجهل.
إن الحقيقة التي لا معدى عنها أن بلاد السودان، بلاد تعدد وتنوع، جنُوبه، مثل شماله، هذا هو واقع، شمال أهله يتراطنون بالمئات من اللهجات، وجنوبه كذلك، أهله عاداتهم شتى، وأعراقهم، وأعرافهم، وطقوسهم، وأسبارهم طابعها التباين، حتى ليعجز عن جمعها وإدراك جذورها العميقة أعظم بحاث في علوم الاجتماع، ويقف مشدوهاً أمامها ذوو البصيرة والنظر، يتأملون فيها قول الحق سبحانه وتعالى،« َولَو شَاءَ َرُبكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمةً وَاحَدةً وَلاَ يَزالُونَ مُخْتَلِفين إلاَ مَنْ رَحِمَ رَبُك وَلِذَلِكَ خَلَقهُم» «هودالأية 118» وقال تعالي أيضاً «وَلَو شَاءَ الله لَجَعَلَكُم أُمةً واحِدةً، وَلَكِن يُضِلَُ مَنْ يَشاءَ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسألُنَّ عَمَا كُنْتُم تَعْمَلٌونْ «النحل الأية93».
بلاد هذا طبعها وتلك فطرتها، اعتقد أنه من العبث السعي إلى تأطيرها وتنميطها واختزالها في بعدٍ واحد، وأي محاولة لذلك هي ضربٌ من المغامرة لا تؤمن عواقبها، خاصةً وأن دافور نارها مشتعلة، وأصحاب المشورة الشعبية في الجبال وفي الإنقسنا وجنوب النيل الأزرق لا تزال آمالهم في الهواء معلقة، ولا ننسى أنهم حديثو عهدٍ بالسلام، وتأليف قلوبهم قد يصبح أمراً دونه خرط القتاد، في ظل الاحباط الذي اكتنف حياتهم، بعد أن تنكر لهم من أولوه الثقة «الحركة» وحسبوها صديقاً يجمعها بهم هَم الوحدة وبناء دولة السودان الحديث، فضلاً عن الواقع الدولي الذي توافق. على الأقل من الناحية النظرية، على احترام التنوع والتعدد والخصوصية الثقافية لكل فرد، ناهيك عن المجموعات والطوائف، ودوننا في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كفل لكل فرد الحق في التمتع بخصوصيته الثقافية والفكرية، وكفل له الحق في حرية الاعتقاد... إلخ الحقوق، فلا أدرى كيف جاز لنا نسيان ذلك وبلادنا تعد من البدريين المصادقين على الإعلان المذكور، إن الحديث العاطفي في هذه المرحلة الحرجة من عمر البلاد هو في الحقيقة زج بها في أتون مزيدٍ من التشقق والتمزق، وأي محاولة اختزال لها في بعدٍ واحد هي في نظري هدم لها على رؤوس الجميع، خاصةً وأن مفهوم القبيلة قد مد رأسه ثانيةً في العقد الأخير، في ظل فشل التنظيمات المدنية الحديثة في القيام بالدور المنوط بها، والمعلوم ضرورةً أنه حين تفشل الدولة في أن تتيح للناس مواعين مدنية تحتويهم، فإن شعور الناس بعدم الأمان والتطامن النفسي يدفع بهم إلى التشرنق والبحث عن السلامة في التكتلات البدائية من أعراق وقبائل وخصوصيات ثقافية وغيرها، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، لا نستطيع إلغاءها بالأماني وإرسال الكلام، لذلك إن كانت الحكومة تريد لشعبها صلاحاً فعليها أن تبسط الديمقراطية والتعددية، وأن تشجع منظمات المجتمع المدني التي تستوعب هذا التنوع والتعدد، فإن أبت ذلك، فإنها تكون على نفسها وعلى غيرها قد جنت براقش، وهذا المهدد ليس خاصاً بالشمال وحده وإنما الجنوب نفسه يدخل في هذه الدائرة الجهنمية، و نحيل في هذا الصدد إلى السيد الصادق المهدي في كتابه المدشن حديثاً بعنوان«ميزان المصير الوطني في السودان»، فقد لفت نظرنا في كتابه المذكور إلى أن الجنوب والشمال معاً فيهما مهددات داخلية، وبؤر توتر تنذر بحدوث إنقساماتٍ قد تؤدي إلى تفتيت دولتي الجنوب والشمال معاً، إن قيض للجنوب الانفصال بدولته المستقلة، وعضَّد حديثه هذا ببحوث ودراسات جادة، مثل دراسة ماريك شوميروس وتيم ألن بالتعاون مع مركز دراسات السلام والتنمية التابع لجامعة جوبا، ودراسة مجموعة الأزمات الدولية، وأبحاث الدكتور جون يونغ، وغيرها من الدراسات التي نوهت إلى المشكلات التي يتوقع أن تواجه دولة الجنوب في حالة الانفصال، وربما تؤدي إلى اشتعال حروب أهلية فيها تقضي على كل آمال الانفصاليون في بناء دولة ناجحة ومستقلة، والذي يخشاه المشفقون على أمر البلاد أن يقول التاريخ غداً عن نيفاشا : «إنها كُتِبَتْ لأجل السلام لكنها أشعلت حروباً» تمنى الشعب العود منها إلى حرب «ما قبل 2005» التي كان خلالها وجود الدولة ملموساً، وسلطان الحكم مبسوطاً، وسلوانا قبل أن نكتوي بنار الفوضى واللادولة، أن الأمل في الله ثم في أولي العقل من الحكومة والمعارضة لا ينقطع بالسعي لإيجاد صيغة توافقية تجنبنا الإنزلاق نحو هاوية «حرب الكل ضد الكل» التي قال بها «هوبز» في فجر الرأسمالية، بصدد تنظيراته عن الإنسان البدائي، وانبثاق فكرة الدولة إلى حيز الوجود، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق