السبت، 8 مايو 2010

التنمية المفترى عليها وحديث الدستور

بسم الله الرحمن الرحيم

التنمية المفترى عليها وحديث الدستور.
بقلم / خليفة محمد الطيب السمري .المحامي

نصت المادة "10-1" من دستور 2005 على " أن تكون الأهداف الأشمل للتنمية الاقتصادية هي القضاء على الفقر وتحقيق أهداف ألفية التنمية وضمان التوزيع العادل للثروة وتقليص التفاوت في الدخول وتحقيق مستوى كريم من الحياة لكل المواطنين " وجاءت المادة "10-2" تقول " تطور الدولة الاقتصاد وتديره بغرض تحقيق الرفاه عن طريق سياسات تهدف لزيادة الإنتاج وبناء اقتصاد كفء معتمد على ذاته وتشجع السوق الحر ومنع الاحتكار"، وأضافت المادة "13-1-أ" من الدستور أحلاماً من مثل "ترقي الدولة التعليم على كافة مستوياته في جميع أنحاء السودان وتكفل مجانية التعليم وإلزاميته في مرحلة الأساس وبرامج محو الأمية"،وقالت المادة "44-3-أ" من الدستور إِن " التعليم في المستوى الأساسي إلزامي وعلى الدولة توفيره مجاناً"، وعن صنوه الصحة جاءت المادة 19 من الدستور تلزم الدولة بالتزام مقتضاه أن " تطور الدولة الصحة العامة وتضمن الرعاية الصحية الأولية مجاناً لكافة المواطنين "،وعن العدالة الاجتماعية بشرتنا المادة 12 -1 من الدستور بأن دولتنا ينبغي عليها أن " تضع استراتيجيات وسياسات تكفل العدالة الاجتماعية بين أهل السودان كافة وذلك عن طريق تأمين سبل كسب العيش وفرص العمل وتشجيع التكافل والعون الذاتي والتعاون والعمل الخيري".
دعنا من الحديث عن ضمانات حقوق الإنسان والحريات التي تضمنتها وثيقة الحقوق المثبتة في صلب الدستور ،فذلك أمرٌ لا زالت تفصلنا عنه فراسخ حضارية لا اعتقد أن قطعها سيكون على نخبة الفشل السودانية يسيراً ما لم تتصالح مع نفسها وتنفطم عن رذائل العادات السياسية التي أوردتنا موارد الهلاك ، وما تفتت البلاد الذي لاح في الأفق عن تلك المهالك ببعيد، دعنا عن مدن الحريات الفاضلة وعواصم الحقوق الفردية الغارقة في أحلام الكمال الإنساني ، ولنخفف الوطء والفرض كذلك حال كوننا على سفر شاق،دعنا عن مقولة السيد المسيح "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان " ،فنحن أمة ما شبعت من كسرة الخبز حتى تتطلع إلى حياة المدن الفاضلة والعواصم الحالمة ، فالمواطن السوداني ظل في كنف كل الحكومات التي تعاقبت على البلاد مهموماً بما يقيم الأود ،يكافح من أجل تعليم أبنائه ويتوجس خيفة أن يصاب بالأمراض البكتيرية التي لا يحر لها علاجا ناهيك عن الأمراض العصرية "الفيروسات والسرطان" التي لا حيلة له أمامها سوي الرضا والاستعداد للرحيل ،كل الحكومات وعدته فما وفت فدارت به الدوائر إلى حد أن اضطر البعض منه إلى امتهان الاستجداء وبيع الشرف والكرامة، وليت الأمر وقف عند عدم الوفاء بالوعود فقد جاءت بآخرة حكومات سعت جاهدة إلى تغييب عقله وغسل دماغه وخططت "لحيونته" على نحوٍ غريب على حد تعبير الدكتور حيدر إبراهيم علي.
ظل المواطن السوداني يكافح في هذه المدارج السفلى من غير أن تلوح له بارقة أمل للأمان والتطامن النفسي ،يعاني الفقر ويتشكى المثقبة ، وهل من أمان مع سلطان الجوع الكافر ،لا ولا كرامة فقد تنزل بذلك قرآن يتلى " الذي أطعهم من جوعٍ وآمنهم من خوف " الآية ،ظل المواطن يرقب حكوماته الوطنية بصبرٍ يغلب التصبر فخلص من سلوكياتها إلى نتيجة مؤداها أن الفارق بينها فارق درجات ، وللأسف درجات تتنزل به في كل لجظة من اللطافة ذاهبةً به نحو الكثافة وتنقله في كل يوم ٍ مما هو سيء إلى ما هو أسوأ ، حتى قتل الفقر فيه روح الإبداع وأحياه على نحوٍ ما تحيا السوائم والبهائم وكانت خاتمة مطافه الحزينة تحدو عيسه فيها الإنقاذ الانقلاب ،تسوقه بلا رحمة وفي غير شفقة إلى عوالم مجهولة لا يعرف حقيقتها ولا يعلم سرها إلا غافر الذنب قابل التوب رب العباد ،فاللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.
صبر المواطن وصابر على المثقبة ،وهو الموعود من الأحزاب المتوالي منها والمعارض ، الوطني منها واللا وطني باحترام نصوص دستور 2005م ،فعلى ضوء تلك النصوص فصلت برامجها الانتخابية،فجاءت كلها – من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين – متوافقة على أولوية مسألة التنمية ومحاربة الفقر والأمراض والمثقبة ورفع الغبن عن حاج أحمد المغلوب على أمره ، لكنها وأيم الله ما كانت فيما قالت صادقة وهذا أمرٌ استشعره مثل اليقين في نفسي ، لا تخرصاً بالظن ولا رمياً بالغيب ولكن للأمر أدلته وقرائنه ، فالبعرة في نهج العربي تدل على البعير وفي أمثالنا السودانية " المطر من رشتو والعريس من بشتو" .
كيف يكون صادقاً في قضية محاربة الفقر والجوع والمثقبة من يفصل قانوناً للوظائف الدستورية ومخصصاتها يبلع في نهمٍ بذئ جل الفصل الأول من الميزانية " أنظر قانون مخصصات الوظائف الدستورية لعام 2005" فستجد العجب العجاب ، وقبل أن تنظر في القانون المذكور قف مع النفس قليلاً وأسألها ..كم عدد الوظائف الدستورية في جمهورية السودان المغلوب على أمره ، ثلاثون وزيراً اتحادياً إلى جانب الرئيس ونائبيه ، ستة وثلاثون وزير دولة ،ثلاثة عشر مستشاراً ،خمسة وعشرون والياً ، إلى جانب تسعة وعشرين وكيل وزارة ،برلمان اتحادي ينيف عدد عضويته على الخمسمائة عضو "أربعمائة وخمسون عضواً إلى جانب ممثلي الولايات وعددهم خمسين ممثلاً" ، خمسة وعشرون مجلساً تشريعياً ولائياً عدد الأعضاء في كل واحدٍ منها لا يقل عن خمسة وعشرين عضواً، خمسة وعشرون وزارة ولائية لا يقل عدد الوزراء في الواحدة منها عن خمسة وزراء ، إلى جانب جيوش المحافظين التي لا يحصيها كتاب ،ومع كل ذلك جهاز أمني تنتشر عضويته في كافة أنحاء البلاد.
هذه الجيوش من الدستوريين الذين نذروا أنفسهم لخدمة قضايا التنمية ومحاربة الفقر والبؤس والمثقبة يسميها اختصاصيو الاقتصاد "العطالة المقنعة" ، وظائف غير منتجة، فلو كانت الحكومة فعلاً حريصة على محاربة الفقر وحادبة على مسألة تأمين الصحة والتعليم ومحو الأمية للمواطن لبدأت من حيث تبدأ قضية التنمية ، ذلك أن أولويات التنمية حتى على مستوى الأسرة تبدأ بقضية الاقتصاد في المصروف وضبطه في إطار الإنفاق على ما هو ضروري ، لكن الذي يظهر ،أن النخب السودانية استمرأت العيش بالمجان وأدمنت العمل غير المنتج بدءاً بالمضاربة وانتهاءً بالعمل السياسي الانتهازي الذي لا يعدو رأس ماله أن يكون جلابية ومركوب فاخر وملفحة تبعتها في الآونة الأخيرة عصى الأبنوس السحرية التي تفتح لحاملها ما استغلق من عوالم المال والرفاه السروق،فكأني والحال كذلك أن النخب السياسة السودانية على مستوى القيادة قد افتتنت بمقولة ابن خلدون " السلطان مجلبة للجاه والجاه مجلبة للمال " ولم تفرط فيها فأنتجت لنا بذلك عقليات تتأفف عن مقارفة العمل اليدوي المنتج، لا بل تعتبره جناية على النفس تؤذي الكبرياء وتلطخ شرف الكمال الانتهازي، فانتشر بين متعلمي السودان هذا الفيروس القاتل إلى أن أتسع الفتق على الراتق وحار في علاجه الطبيب المداويا ،وكانت النتيجة من ذلك أن توقفت عملية الإنتاج وحلت محلها المضاربة والانتهازية والكسب الناعم الذي يؤذي الاقتصاد الكلي ويعطل عجلة الإنتاج ويضعننا رغم أنوفنا في خانة"كل يومٍ ترزلون".
إن النصوص الدستورية المتعلقة بالتنمية ومحاربة الفقر التي أثبتها دستور 2005 تنفيذاً لاتفاقية نيفاشا ستبقى عاطلة معطلة حتى لو حسنت النوايا ما دام أن الحكومة تصر على تضخيم جهازها الدستوري على النحو الذي أشرنا إليه فيما سبق،ولو كانت الحكومة وقيادات الأحزاب المعارضة والمتوالية حريصة على رفع المعاناة عن المواطن كما تزعم لتوافقت قبل خوض الانتخابات على التقليل من تلك الوظائف قدر الإمكان خاصة إذا ما علمنا أن كثيراً من الوزارات المستحدثة هي مجرد أسماء بلا وظائف ابتدعتها العقلية النخوبية لإرضاء بعضها البعض وإسكات صوت المعارضة ،فضلاً عن أن بعضاً من الوزارات الضرورية كان في السابق يقوم على رأس أعمالها مدير شعبة إدارية ويتولى مهامها موظفون عاديون يوفرون على الدولة كثيراً من المال فلا سيارات خدمة ولا نفقات حراسة ولا بهرج سلطان ولا نثريات ضيافة، ولا أدري هل كانت النخب السودانية ستتداعى على الوظيفة الدستورية على هذا النحو الذي نراه إن كان يبذل فيها جهداً يوازي المكاسب المادية والمغانم الكثيرة التي عليها يتقاتلون ؟،ما قصدت من هذا التساؤل مجرد الاستنكار بقدر ما قصدت أن أخلص منه إلى أن الأعمال التي يؤديها الكثيرون منهم ليس فيها ذلك الجهد الذي نتوهم بأنه يعود علينا بالنفع ويرفع عنا الفقر والمثقبة ،فما أكثر المكاتب الوثيرة التي غايتها الترفيه عن السيد الوزير يتلذذ فيها بالأبهة وشرب القهوة ومطالعة الجرائد التي يهزأ من كثيرٍ مما يكتب فيها، لا بل يصف بعض ما يرد فيها بالغباء والسذاجة حال كونه مكمن الأسرار العالم ببواطن الأمور .
وحتى لا نبخس الناس أشياءهم لا بد من الإشارة إلى بارقاتٍ شوارد كانت سنابلها بالحَبِ مليئةً تتدلى ، كانت نشازاً في الوظيفة الدستورية غريبةً بيننا كغربة صالح بين ثمود ، من ذلك موقف الأستاذ بشير محمد سعيد ومن لنا ببشيرٍ في هذا الزمان الأغبر ومن لنا ببشير والبلاد يضارب اليوم على وحدتها في غير خجل ولا استحياء، عمل الأستاذ بشير محمد سعيد مستشاراً صحافياً للمجلس العسكري الانتقالي "انتفاضة أبريل" بلا مقابل مادي خدمةً لوطنه وضرب بذلك مثالاً احتذاه من بعده السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء الأسبق الذي أبى على نفسه أن يتقاضى راتباً أو نثريات عن وظيفته الدستورية بل كان يسافر لمهام الدولة على حسابه الخاص ،وتبعه في هذه السنة الحسنة الأستاذ محمد توفيق وزير الإعلام السابق الذي أعلن تنازله عن راتبه للخزانة العامة ، ولا نقصد من إيراد هذه الأمثلة أن نقول لشاغلي الوظائف الدستورية اعملوا بلا مقابل لأننا نعلم أن لديهم مسئوليات ومن ورائهم أسر ممتدة تنتظر منهم مد يد العون خاصةً بعد الاستوزار،لكن الذي نرجوه أن تقتصر الوظائف الدستورية على ما هو ضروري ولا تكون سبيلاً للتكسب المتواري بثوب المشروعية الدستورية في وزارات ووظائف ما لها من الوظيفة إلا الاسم ،وما لها من العمل إلا ذاك الذي يؤديه مدراء الشُعب الإدارية التقليدية الذين كانت الأمور تسير في ظل قيادتهم بأدنى المنصرفات وهذا ما كان يوفر على الدولة أموالاً تنفقها على التعليم المجاني الذي استفاد منه بعض من يتنفذون الآن في البلاد ورقاب العباد ويتأبون على أنفسهم أن يردوا الجميل بجميل مثله بل يصرون على أن يرهقوا أهلهم عسرا.
إن التنمية في الدولة الحديثة أصبحت تقاس بمعيار " خلق الوظائف المنتجة"، أي أن معدل التنمية في البلاد يعاير بكم الوظائف التي خلقتها الدولة لمواطنيها ، وظائف خدمية وإنتاجية تقدم خدمةً حقيقةً وتبدع إنتاجاً ملموساً يحسه الناس في مأكلهم ومشربهم وصحتهم وملبسهم وتعليمهم ورفاهيتهم ، بمعنىً آخر إن التنمية تقاس بمعيار " فتح البيوت"، والشعور بالأمان النفسي والتطامن الداخلي الذي يجلبه الإحساس بتوفر الرزق الحلال ،فإن غاب ذلك وحل محله الكسب المتسكع والرزق الانتهازي وحرب الكل ضد الكل فلا تحدثني عن التنمية حتى لو شيدت الدولة ناطحات سحابها ، وعبدت بالأسلفت الأسود سبلها ودروبها ، وحتى لو امتلأت سوبرماركتاتها بما لذا وطاب من إنتاج الشرق والغرب فذلك أمرٌ لا يعني حاج أحمد الفقير في شيء وإنما يخص أهل الجاه والسلطان ويعني نهازي الفرص المضاربين باسم الشعب في سوق نخاسة العبيد.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل ،،،،

خليفة محمد الطيب السمري- المحامي

منظومة القيم السودانية ونذير التحول الأخلاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

منظومة القيم السودانية ونذير التحول الأخلاقي
بقلم/ خليفة محمد الطيب السمري/ المحامي

هل السير في التاريخ يكون بالانحدار من فوقٍ إلى تحت؟ أم أن ذلك يخالف ما قررته المعارف الحديثة من أن السير في التاريخ هو سيرٌ مترقي وصاعد من أسفل سافلين وغايته المقصودة هي محطة "أحسن تقويم" المفتوحة على الإطلاق ؟وهل يا ترى أن لأهل السودان قانون تاريخي خاص بهم يتفردون به دون الإنسانية جمعاء أم ماذا؟وهل مما يشفي أن أدفن رأسي في الرمال وأهمس لنفسي همساً خجولاً لتفسير ظاهرة الانحدار الدركي هذه بالقول بنظرية السير الحلزوني في التاريخ – أي السير الصاعد إلى أعلى الذي يتضمن دورات انحدار في صعوده هذا.
الحق أن كل ذلك لا يشفي الغليل ولا يفسر المشكلة!
فيا ترى ما الذي جرى للسودان ولأهل السودان وما سر التحول الذي طرأ على منظومة قيم أهله؟ نظرية فقد الهوية هي الأخرى لا تفسر الظاهرة لأن فقد الهوية ينطوي على نوعٍ من الإحلال –أن تحل منظومة إيجابية مترابطة ومتكاملة محل منظومة سابقة –لكن الذي أراه الآن شتات لا يربطه رباط. فميتافيزيقيا الأخلاق التي بشر بها الأنبياء وقال بها فلاسفة الفيض والإشراق حلت محلها عندنا أخلاق مادية تأسست فقط على ما هو ملموس ومحسوس فلا محل لضمير ولا خوف مما هو غيب،هذه الأخلاق المادية أزاحت بطريقةٍ مزعجة قيم الغنوصية والعرفان الإشراقي الذي أرست دعائمه النزعة الصوفية وشاد بناءه الروحي رجالٌ قنعوا ببساطة العيش وذاقوا حلاوة التقشف ونقاء السرائر فعاشوا أعزةً كراماً وخلفوا وراءهم سيراً عطرة وقيماً نبيلة يحار في تأصيلها أعظم بحاثة علم الاجتماع الحديث، فقل لي بالله عليك لو أنه اجتمع أعلم فلاسفة هذا الزمان فما هي الآليات التي يستطيعون بها حمل الناس على الصدق في التعامل؟،مثل هذا الجهد وفره علينا أباء صدقٍ كانوا يتواصون بمقولات ضيقة العبارة لكن تعجز الصحائف عن حمل مضامينها فشقلبناها وفرطنا فيها أيما تفريط، "صفي النية وما تكون كذاب"، فالكذب كان عند سلفنا من أهل السودان ضرباً من قل المروة لكنه عندنا أصبح بقدرة قادر نوعاً من الفلاحة يوصف مغارفه بالدهاء والذكاء، وبدل تعريف السياسة بأنها فن الممكن صكت لنا المنظومة المشقلبة تعريفاً جديداً تقول فيه إن السياسة هي تزويق الكذب وتجويد فن الفهلوة والمراوغة ، فأصبح الكذب والنفاق بذلك ناموساً حاكماً بيننا يصرف الأمور من القمة إلى درك القاعدة المسحوقة، كان أهل السودان بفطرتهم يخافون اليمين الغموس وفي المنظومة المشقلبة بات الأمر عند أكثرنا نوعاً من الخرافة والسذاجة، أرسى لنا أهل العرفان قاعدة " أن اليمين جراب دقيق" فأبت قيم المادية الحادثة إلا أن تهزأ وتسخر من هذا المبدأ "الساذج" الذي يقول بالغيب وبما وراء الطبيعة فأوحت لنا بخبثٍ لئيم أن نتحلل من الالتزام متى ما تجرد من سلطان المادي ورقابته سواءً تمثل هذا المادي في شهادة شهود أو مضاهاة توقيع، إلى درجة ما عاد معها المحامون الموثقون في السودان يثقون في توقيع المتصرف في الالتزام ففرض أكثرهم التبصيم في كل العقود والمعاملات لا يمايزون في ذلك بين أمي ومتعلم ( فكما تُحدِثُوا يُحْدَث عليكم).
كنا ثقاة لا نرى موجباً لتكبيل متهمٍ بالسلاسل حين نقله إلى المحكمة إلا في جرائم القتل العمد، فدهيت - بعد طول غياب - حين رأيت لفيفاً من البشر يرسفون في أغلالهم وهو يساقون إلى محكمة أم درمان الجنائية سوق البهائم، وحين تحريت عن الموضوع وأبديت دهشتي لزملائي قالوا إن بعضهم متهم في تحرير شيكات بدون رصيد وبعضاً منهم في تحايل وبعضهم في خيانة أمانة،قلت لهم في دهشة ومتى كانت مثل هذه الجرائم توجب وضع الأغلال والقيود؟ أجابوني في أسى عميق :عفواً صديقي فقد تبدل كل شيء! ،فإن لم يفعل معهم ذلك لاذوا بالفرار،فقلت في نفسي (كما تُحْدِثُوا يُحْدَث عليكم) وحملقت طويلاً طويلاً أنقب في ذاتي عن قيم توارت ودفنت مع الأجداد (عند رأس البكتلوا يمين أقيف لا حُوُلِي ) (وإن جريتوا يمين راسي بزينها) (اتباشروا وزينب وراكم)........
هذه البرغماتية الجديدة التي حلت بأهل السودان قلبت ليلهم نهاراً وعقدت عليهم البساطة التي كانت تغبطهم عليها شعوب العالم قاطبة،فأصبح الواحد منهم ينام مهموماً ويستيقظ وهو مستاء ولو كان يملك من المال الكثير، فلا أمن ولا سكينة لكنه لهاثٌ كحل العيون بالسهد والتقرح ،فقد أفلح القائمون على الأمر أيما فلاح في حفزنا إلى ثقافة الاستهلاك التي أفنت أعظم الإمبراطوريات،لأنها ببساطة تنخر في بنية الإنسان وتهبط به من إنسانيته وتحوله إلى أنانيٍ بغيض،وحين تغدو هذه الثقافة سيداً وحكماً فإن قانون حرب الكل ضد الكل –الذي قال به هوبز في فجر الرأسمالية-يكشر عن أنيابه،ومن ثم يصبح لا كبير فرق بين الإنسان والحيتان.
انتشرت هذه الثقافة البغيضة رغم تنبيه النابهين،وهي ثقافة تفسر بلا شك كل الظواهر السالبة التي طغت على منظومة القيم السودانية،فكثيرُ ممن يكذب ومن يسرق ومن يرتشي ومن تزني لا يفعلون ذلك من فرط الجوع والمثقبة،ولكن لاقتناء الكماليات ،من مثل الهاتف النقال وفاتورته، والعربة الفارهة ومحروقاتها، والزواج المبهرج، وشهر العسل الماليزي،وبعد ذلك ينفتح باب المحاكاة والتقليد اللاواعي،فالكل يجد نفسه مسوقاً إلى المصير المؤلم، تحت ضغط قانون اجتماعي، تشكل وفق المنظومة المشقلبة، هذه الثقافة الاستهلاكية هي التي حلت بالمجتمع المصري يوماً من الأيام، فلم يجد حتى الآن فكاكاً من تخمتها ،فقد كان إخواننا المصريون يرحمهم الله هم السابقون، وما علمنا أننا سنكون في يوم من الأيام رهط اللاحقين الاستهلاكيين حتى النخاع ،ولو أن الأستاذ محمود محمد طه كان لديه سابق علم بأن مثل هذا التحول سيحدث في منظومة القيم السودانية لما تجرأ وكاتب الرئيس محمد نجيـب في الخمسينيات عند اندلاع ثورة يوليو،ولما بعث إليه برسالته الشهيرة التي قـال فيهـا:( وأعلم أن الشعب لا ينصلح بمجرد توفير الرخاء المادي،ذلك بأن الإنسان لا يعيش بالرغيف وحده،كما يظن الشيوعيون..وإنما يعيش بالرغيف وشيءٌ وراءه أهم منه،هو القيم الروحية التي تطهر القلب،وتصفي الذهن،وتسمو بالأخلاق ..وأنت رجلٌ مسلم،من شعبٍ مسلم ،قد ضل الطريق إلى المناهل التي ارتوى منها أوائله،فعب من الكدر الآسن ما قعد به عن رحاب الحياة السعيدة..فهل فكرت في رد القطيع الضال إلى المهيع الأفيح من شريعة القرآن،وأخلاق القرآن؟؟ هل فكرت أن تقوم بانقلاب في مناهج التعليم،ومرافق الصحة،ووسائل التغذية،وأساليب السكن،على هدي الدستور الأزلي،القرآن؟..والفساد في مصر ليس سببه الملك،وليس سببه الساسة والأعوان الذين تعاونوا مع الملك ..بل أن الملك وأعوانه هم أنفسهم ضحايا لا يملكون أن يمتنعوا عن الفساد، أو أن يدفعوه عنهم..فإن أردت أن تلتمس أسباب الفساد فالتمسها في هذه الحياة المصرية،في جميع طبقاتها، وجميع أقاليمها،تلك الحياة التي قامت أخلاقها، إما على قشور الإسلام أو على قشور المدنية الغربية أو على مزاجٍ منهما وأنت لن تصلح مصر،أو تدفع عنها الفساد إلا إذا رددتها إلى أصول الأخلاق،حيث يكون ضمير كل رجلٍ عليه رقيبا) ،ألا رحم الله الأستاذ محموداً، فلو أنه علم حالنا اليوم لوجه هذه الرسالة إلى القائمين على الأمر الذين غفلوا عن هذه المعاني وظنوا أن توفير الهاتف المنقول هو الحل لمعاناة شعبٍ أقعدته المحن والكروب، شعبٌ أفلح أهل رأس المال البغيض في غزوه في عقر داره فزينوا له نهم الاستهلاك - مثلما يفعل مروج الأفيون مع ضحيته – وبهذا الاستهلاك فقد كثيراً من الكرامة وفارق سذاجة الفطرة وسلامة الطوية يوم أن أصبح همه اللهاث وراء كل بهرجٍ مزوق ولو كان في ذلك تقويضُ معاني النبل والفضيلة،وللأسف أن ذلك كله تم في ظل سياسة اقتصادية إن أحسنا الظن بها فإننا نقول إنها غير واعية،إذ كان في مكنة القائمين على الأمر التدخل بسياساتٍ قصدية تمنع تفشي داء الوعي الاستهلاكي القاتل الذي أقلق من قبلنا المجتمعات الغربية حتى فقدت بسببه الأمان والسكينة فعاشت في نهمٍ كانت وصفة الخلاص الاجتماعي منه هي البحث عن تشريعات لا تقول بتجريم الانتحار،وللأسف إن الشعب السوداني الذي يعاني من تفشي هذا الفيروس القاتل هو ذات الشعب الذي قال عنه في الماضي أحد العارفين (فإن عناية الله حفظت على أهله أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض بأسباب السماء)... "فالله المستعان على ما تصفون " وهو ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل...
خليفة محمد الطيب السمري/ المحامي