الأحد، 15 مايو 2016

الدكتور حسن الترابي ومقاربة التجديد

              
الدكتور حسن الترابي ومقاربة التجديد - وجهة نظــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر.
بقلم: خليفة محمد السمري المحامي.
(1)
     قال الدكتور حسن الترابي عليه رحمة الله مقرظاً لكتابه السياسة والحكم : " إن هذا الكتاب في شأن الإسلام والسياسة والسلطان ومعظم إخوانه هم من تغشاهم الثقافة الغربية المهيمنة، وقد ينصبغ بعضهم بها فلا يرى السياسة إلا مفتوناً بالدهريات الظاهرة منصرفاً عن الأزليات مدبراً عن ثقافته الأصيلة، إن حفظ الأصالة الإيمانية المتجددة هو ضمان الرشد والهدى في الدوافع والمقاصد والثبات والنفاذ في المناظم والمراسم التي تُسَيِّر حياة المسلمين السياسية والسلطانية ، ولا يجدى أن يقوموا بها تشبهاً بغيرهم بغير أصالة ،أفعالهم كالقرود وأقوالهم كالببغاوات مهما طاب المنقول المحاكي، ولا اتباعاً لبعض الذين نبتوا في دمن الثقافة الدينية التقليدية البائسة الفقه السياسي يقلدونه مفتين في مسائل لا يدركون الأصول والأركان والمغازي في هدي الإسلام جامدين لا يجتهدون ...." أ.هـ ، وتكرر مثل هذا المعنى في باكورة انتاجه الفكري الذي ذم فيه التقليد والجمود عموما، ويقف شاهداً على ذلك كتيبات من قبيل  "تجديد أصول الفقه"، " تجديد الفكر الإسلامي"، "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع" ،" تجديد الدين" و " منهجية التشريع"، ولا أبالغ إن قلت إن ذمه للتقليد وتمظهره بالتجديد قد طبع جميع انتاجه الفكري، فاستطاع بتكرار هذا النهج  لمدى عقودٍ من الزمن نيل صفة المجدد الإسلامي لدى قطاع عريض من المسلمين داخل السودان وخارجه، تشكلت القناعة لدى كثيرين من هذا القطاع العريض بأن الدكتور حسن الترابي هو مجدد هذه المائة، وأن كسبه في تجديد أصول الفقه والفكر الإسلاميين هو كسبٌ أصيلٌ غير مسبوق، على قرار الإمام الشافعي في إبداع القياس ، وداوود الظاهري في مدرسة ظاهر النص ونفي القياس، أو نجم الدين الطوفي في تخصيص النص بالمصالح أو على الأقل على  قرار الشاطبي في إبداع فقه المقاصد في إطار المصالح المرسلة للإمام مالك ، وقد دأب الدكتور الترابي على هذا النهج  يكرره في كل مناسبةٍ يتحدث فيها، فكان أبداً لا يوفر جهداً ولا يدخر وسعاً في سبيل المماهاة مع التجديد والاجتهاد واستقلال الرأي، من ذلك مثلاً ما صرَّح به في حلقة برنامج الشريعة والحياة التي بثت في 9 مارس 2008م، بقوله لمحاوره فيها : "إنه لا ينتمي لمذاهب أهل السنة ولا لمذاهب الشيعة"،- المصدر، الجزيرة نت-  يريد بذلك أن يقول إنه صاحب مدرسة كلامية وفقهية جديدة هو من وضع أساسها وأقام بناءها، وهذا في وجهة نظري قولٌ يفارق الواقع والشروط الموضوعية للاستقلال المذهبي، ذلك أن التجديد عند طلبة العلم وأهل التخصص الشرعي يدور شرطه كله حول إبداع أدوات استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها العملية أو  ما اصطلحوا عليه بأصول الفقه، بأن يكون للمجتهد الكلي قواعد كلية تستوعب كافة فروعه، فمن لا يملك أدوات لاستنباط الأحكام الشرعية تكون خاصةً به لا يجوز عليه وصف المجدد أو المجتهد الكلي، وسيظل مقلداً ولو تماهى مع غريب الرأي وشاذه، وإن فلح - وهو خالي الوفاض منها- فلن تتجاوز حاله لديهم وصف المجدد الجزئي الذي يجتهد وفق أصول غيره، كما هو  الحال عند ابن حزم والشوكاني.
      يدور في خلد كثيرٍ من الناس أن الدكتور حسن الترابي أتى في الفقه الإسلامي بجديد لم يسبقه إليه الأولون ، يشيرون بذلك إلى أرائه الفقهية والكلامية التي تبدو غريبةً، لا بسبب حداثتها كما يظن بعض الناس وإنما بسبب شذوذها وخروجها عن المألوف العام، وهي في الأصل آراء فقهية مطروقة قال ببعضها رجالٌ من السلف، لكنها تُركت ولم تلق عند الناس قبولاً بسبب الشذوذ، وهذه الآراء التي اختارها الدكتور حسن الترابي لا يجمعها تقعيد ولا رابط  سوى الغرابة، فضلاً عن أنه لم يبدعها هو، فأنت لا تستطيع مهما بذلت من الجهد أن تردها إلى أصل واحد أو قاعدة جامعة، كما هو الحال في الفرعيات الفقهية لأهل كل مذهب، ممن تجتمع فروعهم عند قواعد محددة، مثل قواعد الظاهرية أو أهل الرأي على تعدد أدوات أصولهم من قياسٍ واستحسانٍ ومصالحَ مرسلة ...إلخ ، أو كما هو الحال في مدارس علم الكلام العديدة التي اعتنت بمباحث أصول الدين  "اللاهوت والغيبيات" واتخذت كل واحدةٍ منها لنفسها أصولاً في العقائد والتصورات المتجاوزة تمايزت بها عن غيرها.
    فالدكتور حسن الترابي مع غزارة انتاجه المكتوب، لم يحرر أي مؤلَف يمكن تصنيفه في علم الأصول، يوضح فيه المنهج البديع الذي خلص إليه، وتوسل بآلته لاستنباط آرائه الفقهية من أدلتها الشرعية، فكتيبات من مثل "تجديد أصول الفقه" و"منهجية التشريع"، و"تجديد الفكر الإسلامي"، لا تعدو أن تكون مجرد دعوة للمسلمين لتجديد أصول الفقه الإسلامي وحفزاً لهم على ترك التقليد والجمود، وهو أمرٌ محمود ،لكن لا يمكن بأية حالٍ من الأحوال تصنيفها ضمن كتب الأصول التي تخول صاحبها استقلالاً وتميزاً فقهياً عن سابقيه إلى الحد الذي يجعله يقول: "إنه لا ينتمي لمذاهب أهل السنة ولا لمذاهب الشيعة"، فالحق أنني وقفت على نقدٍ لفروعه من كثيرين، لكن لم أقف فيما وسعني الجهد من الاطلاع عليه مما كُتِبَ بمناسبة آرائه الفقهية على أحدٍ  نقد أصوله لا من أهل السودان ولا من خارجه، لأن النقد لا يمكن أن يقع على معدوم، بينما تم هذا النقدُ مثلاً لأصول محمود محمد طه، فأنت إذا ذهبت تقارن بين الرجلين، تجد أن محموداً قد أنتج كتاباً يصنف في الأصول بغض النظر عن اختلاف الناس على سلامة ما ورد فيه أو فساده "كتاب الرسالة الثانية  من الإسلام"، فهذا الكتاب بنى مسألته الفقهية  "فهمه" على أصلين تندرج تحتهما كل فرعيات الجمهوريين، وهما "القرآن المكي ينسخ القرآن المدني" ، " والقول بالنسخ بآيات الآفاق"، فكل مسألة يطرحها الفكر الجمهوري فيما يخص الأحكام الفقهية العملية تجد سندها يعود عندهم لهذين الأصلين أو لأحدهما، فإن قلت لهم ما هي حجتكم  في قولكم: إن جهاد الطلب قد سقط في القرن العشرين، ردوا عليك بأن آية السيف المدنية منسوخة بالآية المكية الكريمة " ذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، إذ جاء وقت ادخارها، وبآيات الآفاق "عهود ومواثيق الأمم المتحدة"، وإن قلت لهم ما هو سندكم في قولكم إنه لا ردة في إسلام القرن العشرين، أجابوك بأن  كل ما ورد بشأن الردة وقتال المشركين منسوخ بآية "لا إكراه في الدين" وهي على الرغم من نزولها في المدينة فهم يعتقدون أنها مكية مضمونا، وإن قلت لهم ما سندكم في قولكم  بأن الحجاب ليس أصلاً في الإسلام، أجابوك بأنه منسوخٌ بآيات الآفاق التي تسير بالإنسانية نحو خلق الألفة بين المرأة والرجل ليكون الحجاب قلبياً وهو عندهم الأصل وأن العود للأصل أحمدٌ مع مراعاة أدب الوقت حسب قولهم ، وإذا قلت لهم كيف تقولون : إن الشورى لا تصلح لإنسانية القرن العشرين قالوا لك: إن آيتها منسوخة بالآية الكريمة (ذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ) ومنسوخة بآيات الآفاق الملهمة لفكرة الديمقراطية، وهم على هذا النحو يرودن كل آرائهم فيما يخص الأحكام العملية إلى الأصلين السابق ذكرهما، وأنت بذلك لا تحتاج إلى حجاجهم في الفروع المفتوحة على الإطلاق ولا لمناقشتهم فيها، وإنما لا عليك سوى نقد أصولهم الجامعة وبيان مدى صلاحها من فسادها – أي تناقش منهجهم لأنه أصلٌ ولا تحتاج بعد نقاشه لفحص ثمرتهم، إذ القاعدة عند علماء الأصول أن القدح في الأصل هو قدحٌ في الفرع بالضرورة.
   لقد ركنت لهذا المثال ( كتاب الرسالة الثانية من الإسلام) لأنه من حيث التسلسل الزمني يعد في وجهة نظري آخر كتاب، يمكن تصنيفه في كتب أصول الفقه بغض النظر عن اختلاف الناس حول صلاحه و فساده، فضلاً عن أن كاتبه من المعاصرين للدكتور الترابي، وإذا ذهبت على هذا  النحو تنقح في كتب الأصول - وهي كثيرة – ستجد أن كل مدرسة فقهية بنت لنفسها منهج "قواعد جامعة" يمكن رد كل فروعها إليها، فالظاهرية مثلاً  بنوا أصولهم  على أن مصادر الحكم الشرعي لديهم هي فقط ظاهر النص من كتاب أو سنة حسب دلالات اللغة في كلام العرب من غير تأويل، وإجماع الصحابة، وبناءً على هذين الأصلين رفضوا الرأي بكافة وسائله وأدواته، فأبوا على أنفسهم الأخذ  بالقياس والاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة وإجماع غير الصحابة وأي وجه ٍ آخر من وجوه الرأي، فكانوا إذا لم يجدوا في المسألة نصاً شرعياً من كتابٍ أو سنة يردوها إلى  الاستصحاب وهو عندهم وعند غيرهم بقاء الشيء على أصل الإباحة (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، فإن قال لك بعضهم بجواز نكاح الربيبة غير ذات الحجر بانتفاء القيد الوارد في الآية الكريمة "اللاتي في حجوركم" أو قال لك بعضهم: إن سؤر الكلب نجس ولا يتطهر الإناء الذي ولغ فيه  إلا بغسله سبعًا إحداهن بالتراب الطاهر، لأن النص قد ورد بذلك، بينما أن سؤر الخنزير طاهر فيصح الشرب والوضوء من الإناء الذي ولغ فيه من غير حاجة لغسله لعدم ورود نص في ذلك، فأنت في هذه الأحوال لا تحتاج  لمناقشة هذه الفروع وإنما تصير مباشرةً لدراسة الأصول التي أقيمت عليها لإثبات صلاحها من فسادها، ولك مثل هذا القول  فيما يخص مدرسة الرأي باختلاف الأصول المعتمدة لدى كل مذهب من مذاهبها من قياسِ أو استحسانٍ أو سد ذرائع أو مصالح مرسلة ...إلخ. وبمقاربتي للدكتور حسن الترابي، أزعم بما هو مثل اليقين في نفسي أن مثل هذا المنهج مفقودٌ وغائب في أرائه  الفقهية وأحكامه العملية، .إذ  ليس له أصولاً جامعة يمكن دراستها لبيان صلاحها من فسادها، لذلك فإن المتتبع لفروعه يشقى ويحتار في كيفية تخريجها، ولا يملك أهل التخصص في علوم الفقه بسبب هذا الغياب حيلةً سوى تصنيف إنتاجه الفقهي وآراءه العملية في باب ما اصطلح عليه عند طلبة العلم الشرعي "بالاختيارات الفقهية"، لقطفه من كل بستانٍ زهرةٍ أو ثمرة، رغم نفيه عن نفسه الانتماء  لمذاهب أهل السنة والشيعة معاً على النحو الذي أشرتُ إليه فيما سبق، وللبرهان على زعمي هذا  سأدلف على سبيل التمثيل لا الحصر لبعض آرائه الفقهية المشهورة أفككها بغرض معرفة أصولها، والتحقق من هل يصلها منهجٌ جامعٌ أم أن الأمر لا يعدو الاختيار والانتقاء من أقوال السابقين بلا منهجٍ جامع أو قاعدة مُوَحِدة.
    من ذلك مثلاً أن الدكتور حسن الترابي أجاز زواج المسلمة من الكتابي، ولما سئل عن أصل هذه الإجازة "سندها"، قال: إنه نظر في كتاب الله فلم يجد فيه نصاً يحرم ذلك، وهو بهذا قد ردنا إلى أصل الاستصحاب "بقاء الشيء على أصل الإباحة" لعدم وجود النص المانع، وهذا بلا شك إعمالٌ لأصول الظاهرية، وهم من أهل السنة الذين نفى الدكتور حسن الترابي انتماؤه لمدارسهم، كما سبق أن أوضحت ذلك، مع التنويه إلى أنه في وجهة نظري أخطأ الاجتهاد في إنزال أصول الظاهرية على الواقعة محل النظر حين أفتي بالجواز، فإذا استعرنا منهجية تفسير القرآن بالقرآن التي أبدعها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان، نخلص إلى أن ظواهر نصوص القرآن الكريم حرَّمت زواج المسلمة من الكتابي، فظاهر النص القرآني "والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا اتيتموهن أجورهن غير مسافحين.." حَلٌ لذكور المسلمين مثل طعام أهل الكتاب ، وظاهر النص القرآني نظر في ضابط التحريم في الزواج لناحية الرجل ومنه انطلق يحدد من عليه زواجهن حرامٌ ، فقال تعالي: "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخت ...إلخ الآية"، ولم ينظر لناحية المرأة فلم يقل تعالى الله :حرمت عليكن آباؤكن وإخوانكن.. إلخ، وظاهر النص يقول ناهياً "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هُنَّ حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن" ولفظ الكفار يدخل فيه ضرورةً أهل الكتاب، لأن الكفر لغةً هو التغطية واصطلاحاً هو جحود رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعم من الشرك الذي  قصر عليه الدكتور حسن الترابي التحريم بوقوفه عند ظاهر الآية (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)، لكأن ظاهر قوله تعالى "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن" لكأن ذلك ليس من القرآن، وإذا كان هذا هو الحكم بشأن من تزوجن بالكافرين  قبل اسلامهن، " لا هن حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن" فمن باب أولى صرفه إلى المسلمات ابتداءً ممن يبتغين الزواج بأزواجٍ من أهل الكتاب، وذلك بسبب اللفظ الجامع (الكفار) الذي يدخل فيه كل جاحد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم يهودياً كان أو نصرانياً أو مشركاً. يظهر لي أن  الدكتور حسن الترابي بدا في هذا النموذج ظاهرياً غير موفق ، فنسأل الله له أجر الاجتهاد.
نموذج آخر: مسألة إمامة المرأة للرجال، التي رأي الدكتور حسن الترابي جوازها، وهي من المسائل المشهورة التي كانت محل خلاف فقهي عند السلف، ورد في ص (271/22)- ترقيم آلي- من الموسوعة الفقهية الكويتية  ما نصه: ( ذهب المالكيّة إلى أنّ الذّكورة شرطٌ لإمامة الصّلاة، وأنّه لا يجوز أن تؤمّ المرأة رجلاً ولا امرأةً مثلها ، سواء كانت الصّلاة فريضةً أو نافلةً ، وسواء عدمت الرّجال أو وجدت، لحديث " لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة"، وتبطل صلاة المأموم دون المرأة التي صلت إماماً فتصح صلاتها، ووافقهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والفقهاء السّبعة - من فقهاء المدينة - في منع إمامتها للرّجال ، لما روى جابر رضي الله عنه « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : لا تؤمّنّ امرأة رجلاً » ، إلاّ أنّهم خالفوا المالكيّة في مسألة إمامة المرأة للنّساء فيرون أنّ هذا جائز ، والحنفيّة يرون كراهة إمامتها للنّساء ، لما روي عن عائشة أنّها أمّت نسوةً في صلاة العصر وقامت وسطهنّ وكذا أمّ سلمة . كما أنّ بعض الحنابلة يرون أنّه يجوز أن تؤمّ المرأة الرّجال في صلاة التّراويح وتكون وراءهم ، لما روي عن أمّ ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذّناً يؤذّن لها وأمرها أن تؤمّ أهل دارها وذهب أبو ثورٍ والمزنيّ وابن جريرٍ إلى صحّة صلاة الرّجال وراء المرأة( أ.هـ،  فإذا جاء الدكتور حسن الترابي بآخرة واختار رأياً فقهياً متروكاً فيما يخص إمامة المرأة هو رأي  أبي ثور والمزني وابن جرير، فإن ذلك لا يصله بالاجتهاد والتجديد اللذان تماهى معهما إعجاباً ومحبة ،لا عملاً وتفكيرا، ولا يقطع بينه والمقلدين عموماً الذين سخر منهم  بقوله: "أفعالهم كالقرود وأقوالهم كالببغاوات مهما طاب المنقول المحاكي"، ولا يقطع أيضاً  بينه وأتباع الثقافة الدينية التقليدية ممن وصف حالهم بقوله : "الذين نبتوا في دمن الثقافة الدينية التقليدية البائسة الفقه السياسي يقلدونه مفتين في مسائل لا يدركون الأصول والأركان والمغازي في هدي الإسلام جامدين لا يجتهدون" ، فالمعوَّل عليه في الاجتهاد والمجتهد، هو الأصول، فمن لا أصول له تستحيل عليه الأصالة في التجديد ويظل مقلداً، وإنْ ذم المحاكاة أو سخر منها،  فإذا كان الدكتور حسن  الترابي اعتمد على مجرد رأي أبي ثور والمزني وابن جرير السابق ذكره، فإنه لا يكون  بمنجاة من التقليد المذموم طالما أنه لم يُظهِرْ للناس الأداة الأصولية المبتكرة التي توسل بها إلى اختيار هذا الرأي وعن طريقها انتهى لهذا اليقين فيما يخص إمامة المرأة، ولا يشفع له بأية حالٍ من الأحوال اعتذاره عن هذا الابتكار الإكثار من القول بمناسبة وبلا مناسبة بأن منهج أصول الفقه جمد لتأثره بالمنطق الإغريقي الصوري، ما دام أن بين أيدينا كتباً في الأصول مثل موافقات الشاطبي، مبدع فقه المقاصد والغايات، ومبتكر فلسفة روح النص بضوابطها الشرعية المعروفة، ومنتسكيو لا زال نسياً منسياً في عوالم العدم. ولا أظن في هذا الصدد أن مجرد الركون إلى استهلال الإمام الغزالي  لكتابه "المستصفى في علم الأصول"  بمقدمات من المنطق اليوناني يصلح  حجةً لمن يزعمون - على طريقة الدكتور حسن الترابي - أن منهج أصول الفقه الإسلامي قد جمد بسبب تأثره بالمنطق الإغريقي الصوري، ودليل ذلك على رأي الدكتور محمد عابد الجابري أن القياس الفقهي يندرج في باب البيان العربي، لا البرهان الإغريقي  "المنطق"، وتحديداً التشبيه بعقد المقارنة بين صفاتِ أصلٍ وفرعٍ  للوصول لعلة الحكم، بينما المنطق الصوري الإغريقي الذي اعتذر به الترابي ضمنياً عن إبداع أدوات في الأصول تم تأسيسه على مقدمتين - على الأقل - مُسَلَّم بهما، ونتيجة، ولا علاقة له بعقد المقارنات التشبيهية على النحو المعمول به  في القياس الفقهي كتطبيق عملي لعلم البيان العربي، ودليل ذلك أيضاً أن بقية أدوات الأصول من استحسانٍ واستصحاب ومصالح مرسلة ...إلخ ليس فيها مقايسة أصلاً لا بيانية ولا برهانية حتى يقال بتأثرها بالمنطق الصوري اليوناني، الذي اعتقد الدكتور حسن الترابي بغير بينة أنه سبب جمود علم أصول الفقه ومن ثم جمود الفقه المؤسس عليه.
مثال آخر:  مسألة شهادة المرأة ونفيه أن تكون على نصف شهادة الرجل مع قبوله شهادتها بإطلاق سواءً في المعاملات أو في القصاص والحدود. إلخ ما اشتهر عن الدكتور حسن الترابي في هذا الصدد.  من المعلوم أن هذه المسألة قتلها الأولون بحثاً وتخريجاً فكان رأى الجمهور فيها أن شهادة المرأتين تعدل شهادة رجلٍ واحد في المعاملات ولا شهادة لهن في الحدود والدماء إطلاقاً، مع تفصيل في شهادتهن منفردات دون الرجال في أحوال النساء، هذا هو رأي الجمهور.
 أما الرأي الشاذ الذي وقع عليه اختيار الدكتور حسن الترابي بشأن شهادة المرأة فيبينه هذا النقل من "المحلى" لمحمدٍ بن حزم الظاهري:  (....ومن طريق محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بين عيينة، حدثنا أبو طلق، أن امرأةً وطئت صبياً فقتلته، فشهد عليها أربعُ نسوة، فأجاز علي بن أبي طالب شهادتهن ، ومن طريق أبي بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث عن أبي طلق عن أخته هند بنت طلق قالت: كنت في نسوةٍ وصبيٌ مسجى، فقامت امرأة فمرت فوطئته، فقالت أم  الصبي: قتَلتِه والله، فشهد عند عليٍ عشرُ نشوة أنا عاشرتهن ، فقضى عليٌ عليها بالدية وأعانها بألفين، ومن طريق أبي عبيد حدثنا هُشَيم عن حجاج بن أرطاة عن عطاء قال: أجاز عمر بن الخطاب شهادة النساء مع الرجال في الطلاق والنكاح، ومن طريق أبي عبيد حدثنا يزيد عن حجاج عن عطاء بن أبي رباح أنه أجاز شهادة النساء في النكاح، ومن طريق محمد بن المُثَنى حدثنا أبو معاوية وهو محمد بن خازم الضرير عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح قال: لو شهد عندي ثماني نسوة على امرأة بالزنى لرجمتها، ومن طريق عبد الرزاق حدثنا ابن جريح عن عطاء بن أبي رباح قال: تجوز شهادة النساء مع الرجال في كل شيء وتجوز على الزنى امرأتان وثلاثة رجال.....) أنتهى النقل من المحلي، مع ملاحظة أن صاحبه لا يعتقد هذا الرأي وإنما أثبت هذه الآراء للمقارنة– ترقيم الكتروني (397/9)، (398/9)، فإذا جاء الدكتور حسن الترابي بآخرة، واختار هذا الرأي الفقهي الشاذ من غير أن يبين للناس القاعدة الأصولية الكلية التي أبدعها، ليمنع بها التعارض مع  ظاهر النص القرآني الكريم "واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"، فإن ذلك لا يُنَجِيه من القدح الذي انتاش به أهل التقليد عموماً في مقدمة سفره المشهور - السياسة والحكم – حين قال عنهم : "أفعالهم كالقرود وأقوالهم كالببغاوات مهما طاب المنقول المحاكي"، ولا يخرجه مثل هذا الاختيار عن فلك القديم إلا برهةً كما السراب يأتيه الظمآن يحسبه ماءً، أو إن شئت التلطف كما  المجاري الموسمية، يأتيها الغريب يحسبها نهراً نبعه مدرارا.
(2)
    تلك كانت بعض نماذج لآراء الدكتور حسن الترابي في أبواب العبادات والمعاملات لا تجمع بينها قاعدة أصولية موحِدة ، اللهم إلا التقليد والمحاكاة التي سخر منها، أما فقهه السياسي، أو إبداعه في باب السياسة الشرعية - التي جنَّد لها عمره كله - ، فلا أريد اختزاله في عبارة السيد المسيح عليه السلام  : "بثمارهم تعرفونهم"، فالبعرة تدلك على البعير، وحال السودان اليوم ينبئك عن مدى سلامة الفكرة أو نضجوها، مِثْلُ خبير، ومنعاً للاختزال المخل سأدلف إلى بعض نماذج من فقه العملي في السياسة الشرعية، لعلَّها تدلل على تأصيل تفكيره السياسي، ولا يعنيني في هذا الصدد التنظير المعقد الذي ورد في كتاب "السياسة والحكم"  بما يدل على ضبابية الرؤية وتشوش عقل الكاتب وعدم وضوح الفكرة- التي عبر عنها- في ذهنه، وقد كفاني مؤونة العناء البروفيسور السوربوني  المتخصص في التاريخ والفكر الإسلاميين المرحوم  محمد أركون حين لخص غياب المنهجية في هذا الكتاب بقوله: " نعم لا يحق لكاتب وكاتب مفكر أن يستعمل اصطلاحاً واحداً دون أن يمعن النظر في تاريخ استعمال هذا المصطلح أولاً، لذلك أكرر أن أساس أي تفكير سياسي يجب أن يكون على التاريخ المحقق لكل اصطلاحٍ يُستعمل، هذا الكتاب نجد فيه كما ذكرت أمثال كثيرة، مصطلحات عديدة، مرة تحيله إلى المعجم القرآني، مرة إلى معجم الفقهاء، مرة إلى المعجم الغربي دون أن يحقق بأي معنى ينتمي إلى الغرب ،يعني اختلاط كبير اختلاط كبير ..فوضى ..هذه فوضى مفهومية" أ. هـ. محمد أركون - المصدر: الجزيرة نت - برنامج الكتاب خير جليس.
  أترك ذلك لمحمد أركون ، وأقارب بعضاً مما تم تطبيقه عملياً من منتوج فكر الدكتور حسن الترابي واجتهاده في باب السياسة الشرعية، وقت أن كان الفقيه الأمير – أي ما قبل المفاصلة الشهيرة-  فعلماء فلسفة الخبرة "جون ديوي " وأمثاله يزعمون: ما من فكرة مجردة أو نظرية مجنحة يجوز عليها وصف الصواب والخطأ إلا إذا لامست أرض الواقع، فتكون ثمرتها مؤشراً يعين على إصدار الحكم الموضوعي الصحيح.
   ظل الدكتور حسن الترابي السياسي، منذ  أن عرفه أهل السودان في أكتوبر 1964م وإلى يوم وفاته عليه رحمة الله، يغني سياسياً بلسانين، يغني للديمقراطية ودولة القانون بلسان، وينشد في نفس الوقت الشورى ودولة الشريعة بلسانٍ آخر، وللمفارقة ،يرغب في تطبيق كل ذلك في حيزٍ زمكاني واحد، مع أنه لا يخفى عليه بأية حالٍ من الأحوال- وهو صاحب رسالة  "سلطات الأزمة في القانون الدستوري " السوربونية المشهورة - أن  الأولى "الديمقراطية" من إفرازات الدولة القومية التي صنعها الغرب، والثانية "الشورى" من ثمرات فقه السياسة الشرعية الإسلامي، الأولى أسست دولتها على المواطنة والانتماء القومي، والثانية أسست دولتها على الدين والأمة، الأولى تجيز لبرلمانها أن يفعل كل الأشياء- وقديماً قالوا ما عدا أنه لا يصنع من الرجل امرأةً  مع أنه اليوم يفعل ذلك "قوانين التحول الجنسي" -، والثانية يستحيل على مجلس شوراها مخالفة أي نصٍ شرعي، وقس على ذلك من أوجه التباين والاختلاف الكثيرة التي رصدها أهل الاختصاص في الدستور والنظم، ومع هذا التباين خاض الدكتور حسن الترابي العجاجة وغمار التحدي، غير عابئ بنصال التناقضات، ولا رماح التباينات، وذهب يؤلف بين كل ذلك بترقيعٍ فتقه لا يلتئم، تجسد هذا الترقيع عملياً في دستور جمهورية السودان لعام 1998م، الذي خيط "والمشروع الحضاري الإسلامي السوداني" في قمة عنفوانه وشموخه في ظل القيادة السياسية والفكرية للدكتور حسن الترابي، الذي ضنَّ على الناس وأبى أن بميط لهم اللثام عن القاعدة الأصولية المبدعة  التي ركن إليها في التأليف بين تناقضات الدولة القومية المؤسسة على ميثاق المواطنة بغض النظر عن التباين الديني، ودولة الشريعة التي لا تعترف بحقوق سياسية إلا للمسلم، أما غير المسلم في ظلها فلا يلي ولايةً صغرى ولا كبرى ووضعه القانوني فيها مثل وضع المقيم الأجنبي في الدولة القطرية الحديثة تماماً، يتمتع فقط بحقوق قانونية مدنية، ولا شأن له بالحقوق السياسية كما تبين ذلك شروط عهد عبد الرحمن بن غنم المشهورة، وتفسره أحكام أهل الذمة لابن قيم الجوزية. لم يكشف هذا المشروع  للناس مثلاً الأصل الفقهي الذي تم الاستناد إليه في بناء المادة (4) من دستور 1998م، وتقرأ كما يلي : "الحاكمية في الدولة لله خالق البشر والسيادة لشعب السودان المستخلف يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والشورى وينظمها الدستور والقانون"، شعب السودان هذا بمسلمه وغير مسلمه مستخلفٌ، بما يتعارض مع الأصول الشرعية للاستخلاف التي جاءت بها الآية الكريمة " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض"، هكذا عبر مشروع الدكتور حسن الترابي هذا الخضم الشرعي، متصالحاً  مع الشيزوفرانيا الفكرية التي هدته إلى أن يجعل من الفريق/ جورج كنقور أروب على سبيل المثال نائباً للرئيس، وأن يعلن الجهاد على رؤوس الأشهاد بجيش  يضم مواطنين غير مسلمين، من غير أن يبيِّن  مبدع هذا المشروع للناس التأصيل الذكي الذي تجاوز به مبادئ فقه السياسة الشرعية وشروطها  للولاية، سواءً صغرى أو كبري – وهو أمر  لا يجهله الدكتور حسن الترابي-  ومن غير أن يملك الشجاعة الفكرية ليجرؤ بالتصريح بأنه ارتكن في ذلك إلى أسس ومبادئ الدولة القومية "المواطنة"، التي اختار مشروعه الفكري أن تكون السيادة فيها لشعب السودان المستخلف بمسلمه وغير مسلمه ، بما يتعارض مع فقه الشريعة الذي جاء الدكتور الترابي "لتأصيله وبعثه في أمةٍ رأيه فيها أنها جمدت فكرياً وفقهياً"، ومع هذا الركون الواضح إلى الدولة القومية المؤسسة على المواطنة فإن صاحبكم ما تورع أبداً من توصيف مناهضيه سياسياً المنادين بالدولة المدنية - من الذين وقفوا نفس موقفه هذا  – لم يتورع من توصيفهم بالزمنيين، ويشهد على ذلك اللغط الذي صاحب مشروع الدستوري الإسلامي في العام 1968م، الذي انتهت نتائجه عملياً إلى طرد الشيوعيين من البرلمان، كما يشهد عليه اتهام من تبنوا مفهوم الدولة المدنية مؤخراً – كالصادق المهدي وغيره -  بالعلمانية والمروق على مفاهيم الدين، ولك أن تقارن في هذا المقام بين هذا الموقف الفكري المرتبك، وبين موقف رجلٍ زينه الصدق في طرحه  الفكري مثل أبو الأعلى المودودي الذي حدد موقفه من الدولة القومية الديمقراطية بصراحة من لا يخشى فوات جاهٍ أو مالٍ أو كسبٍ سياسي ، حين قال : "ومن الناس من يقول بتأسيس دولة قومية للمسلمين ولو غير مستندة إلى قواعد الشريعة الغراء، يقولون به ويدعون إليه ويغتنمون هذه الفكرة في المرحلة الأولى، ويزعمون أنه إذا تم لهم تأسيس دولة قومية يمكن تحويلها تدريجاً فيما بعد إلى دولة إسلامية بوسائل التعليم والتربية وبفضل الإصلاح الخلقي والاجتماعي، ولكن شهادات التاريخ والسياسة وعلوم العمران تفند مثل هذه المزاعم وإن نجح مشروعهم فلا شك يكون معجزة.....فليت شعري كيف يمكن أن تكون دولة قومية مؤسسة على طراز الديمقراطية عوناً ومساعداً في استكمال هذا الإصلاح السياسي وانجاز مهمته" أ.هـ المودودي – كتاب نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور.
    نموذج ثانٍ، المادة (65) من الدستور السابق ذكره وتقرأ : "الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً ودستوراً وعرفا هي مصادر التشريع ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول ولكنه يهتدى برأي الأمة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة الأمر". نحوياً، المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه ، نعتاً وإعراباً، فالشريعة وإجماع الأمة استفتاءً وإجماع الأمة دستوراً وإجماع الأمة عرفاً هي مصادر التشريع، فإجماع الأمة في كل هذه الأحوال مصدر مساوٍ للشريعة، والمساواة بينه وبين الشريعة الإسلامية  تدل على أن المقصود به شئياً آخر غير الإجماع المعروف عند الأصوليين من أهل العلم الشرعي الذين يصنفونه من بين أدوات استنباط الأحكام الشرعية، شأنه شأن القياس والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وشرع من قبلنا ..إلخ أدوات أصول الأحكام الفقهية، فهم لا يقولون مثلاً إن الشريعة الإسلامية والقياس أو الاستحسان هي مصادر استنباط الحكم الشرعي، وإنما دأبوا على أن الشريعة الإسلامية وحدها هي أصل التشريع أو مصدره ، والوصول إلى استنباط أحكامها يمكن أن يتم بالأدوات السابق ذكرها ومنها الإجماع، والخلاصة العملية لفهم علماء الأصول تجعل النص الدستوري الإسلامي فيما يخص التشريع يقرأ على النحو التالي: (الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع) ثم نسكت، وهذا ما قصد إليه علال الفاسي حين قال في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها بشأن الإجماع: "فالأصلح أن يترك للإجماع مهمته كنظام للشورى بين المسلمين يرجعون إليه كلما عنَّ لهم أمر أو حدث لهم حادث يتبادلون الرأي ويبذلون الجهد لاستنباط الحكم من الدين بما يوافق حاجة العصر ورغبة التقدم" وبهذا ربط استنباط الحكم من الدين بالإجماع وربط هذا الأخير بالشورى المنوطة بالمسلمين وحدهم، فلك أن تقارن بين هذا وما  ورد في دستور "المشروع الإسلامي السوداني" الذي أناط الإجماع بالأمة في دولة مؤسسة في حقيقتها العملية على القومية والوطنية لا على الأممية بعد أن أثبت في المادة (4) منه  السيادة لشعبها بمسلمه وغير مسلمه كما المحت سابقاً، ومقتضى ذلك أن غير المسلم ينصبغ قسراً بالقواعد الشرعية التي تخص المجتهد المسلم ويصبح من أمة المسلمين المنوط بها الإجماع ، لا بل أكثر من ذلك  جعل إجماع الأمة كمصدر للتشريع "القانون"  مساوياً للشريعة،  والنهاية المنطقية لهذا الطرح أنه يجوز لبرلمان السودان أن يستقي قوانين البلاد من الشريعة، كما يجوز له أيضاً أن يستقيها من إجماع الأمة "السودانية " استفتاءً بمسلمها وغير مسلمها، وهكذا اختلط المفهوم الشرعي بالمفهوم الزمني، والتبست مفاهيم الشورى بالديمقراطية، وتمازج مفهوم الدولة القومية الوطنية مع مفهوم الدولة الإسلامية الأممية، من غير أن يقل لنا منظرو هذا المشروع وعلى رأسهم الدكتور حسن الترابي شئياً عن الاجتهاد المبدع أو الأصل الشرعي الذي استندوا إليه في إجازة مثل هذا التخليط، هذا التخليط  فيما يخص أمر السودان "الدولة القومية الأممية الديمقراطية الشورية" في الزمكان الواحد، قد سبقه تخليط مماثل في فكرة انعقاد المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي نقل تناقضات المشروع الفكري للدكتور حسن الترابي إلى المستوى الإقليمي وقت أن كان صاحبكم الفقيه الأمير تماماً كما المهدي بن تومرت في دولة الموحدين، فرأينا بأم أعيينا الأرثوذكسي القومي العروبي جورج حبش واليساري القومي العروبي نايف حواتمة يعانقان المشروع الإسلامي الأممي في الخرطوم ممثلان للقومية العربية، كأن مُنَظِّر هذا المشروع ما سمع عن جدل هيجل ولا عن ديالكتيك ماركس اللذان جزما من واقع تحليل التاريخ بعلمية يقرها المسلم وغير المسلم ، أنه  ما من مشروع أو فكرة إلا وتموت بسبب التناقضات الكامنة فيها، فكيف أراد الدكتور حسن الترابي بعد ذلك  لجنينه أن يرى النور وتناقضاته في لحظة الولادة أوضح من الشمس في رابعة النهار. نعم قديماً حلم الكواكبي بمؤتمر أم القرى وجسد حلمه هذا في سفرٍ يقرأه الناس، فلله دره وأَعْجٍب به من حلمٍ مشروع يقارب الواقعية ألف مرة من تطبيقاتٍ عملية صرف الناس عليها أموالاً وأهدروا فيها من وقتهم الثمين "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي"، ولو كانت عينُ الخيال حاضرةً لوفر الدكتور حسن الترابي على الناس كل هذه الجهود لكنه للأسف ركب مركب السياسي المهموم بالمكاسب لا المفكر الذي يأنف عن ركوب التناقضات، ولو ذهبت في حقل السياسي  تقارن بينه وبين ميكافيلي صاحب الأمير، لوجدت فكر هذا الأخير وقراءته الواقعية للتاريخ أفاد منها أميره في توحيد إيطاليا القومية فكان نبل الغاية والمقصد غفراناً لمرذول الوسائل، فماذا أفدنا نحن أهل  السودان من وسائل الدكتور حسن الترابي وتفكيره السياسي منذ أن أطلَّ على الشأن العام في  1964م؟ سوى التشرذم والتفكك والانقسام، وبناء مجده الشخصي إن أردت تزيداً.
   وفي خاتمته أقول - ولا أصادر على رأي أحد-  لا تحدثني عن إعجابك بمفكرٍ ذري أو مصلحٍ اجتماعي إلا بثمرة انتاجه، ونفعها للناس في معاشهم ومعادهم، وإلا فحالك لن يعدو حال الوثنيين من أهل الأيديولوجيا الذين ألمح إليهم الإمام الغزالي عليه رحمة الله بقوله: " فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائلٍ حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلاً" ، أقول إن كان للدكتور حسن الترابي عليه رحمة الله من ثمرة، فثمرته، أنه بجرأته المعهودة ، قذف حجراً في آسن الجمود الفكري الذي ضرب بأطنابه على الفقه والفكر الإسلاميين ، فأشار عليه رحمة الله مثل كثيرين للداء لكنه لم يوصِّف علاجاً، وحاول نقل الدين إلى رحاب صناعة القرار السياسي لكنه لم يبدع لا أصولاً شرعية ولا مناهج وضعية تخدم قضية الوطن، وإنما شغل نفسه بكيد السياسة والغالب فيها والمغلوب، فأنتج تناقضات عبقرية هزمت مشروعه في لحظة الميلاد، فاستحق بهذا الكسب الممحوق أن ينضاف بامتياز إلى قائمة عباقرة الفشل في التاريخ الإنساني، فآهٍـ آهـ على حظ السودان العاثر، وآهٍـ أن تتبدد طاقة رجلٍ في ذكاء الدكتور حسن عبد الله الترابي، لتذهب أدراج الرياح فيما  لا ينفع الناس.  
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،
















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق