الأحد، 11 أكتوبر 2009

الشيخ الترابي وغياب منهج التجديد - تعقيب على كتاب الأخ الكريم محمد صديق

بسم الله الرحمن الرحيم
الشيـخ الترابي وغيـاب منهـج التجـديد.
"تعقيب على كتاب الأخ الكريم محمد صديق"
بقلم/ خليفة محمد الطيب السمري- المحامي.

الأخ الأستاذ الكريم / محمد صديق –بواسطة الأستاذ الفاضل / محمد رحمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
في البدء اعتذر عن التأخير في إبداء وجهة نظري في ما تفضلت به أخي الكريم من كلام هو محل احترامي رغم اختلافي معك في كثيرٍ مما أوردته في رسالتك،وأحمد لله على نعمة أن نيتي تبحث عن الحقيقة لا عن الانتصار للذات ،ويشفع لي فيما اعتقده من حسن النوايا أن ما كتبته عن الترابي -ورأيت أنت فيه غير ما أرى – لم انطلق فيه من منطلق أيديولوجي ولا من إحنٍ على أحد،ولكن كان المنطلق فيه معرفياً،هدفه البحث عن الحقيقة لا أكثر من ذلك،فالشيخ الترابي محل احترام الجميع، ولكن هذا الاحترام لا يجعله فوق نقد الناقدين، ذلك أنه من مبادئ ديننا الحنيف أننا كلنا خطاءون وخير الخطائين التوابون.
لقد أثلج صدري ما بعثته إليَّ على البريد الالكتروني ،فذلك فيه دلالة على أن ما كتبته -على تواضعه- حرك ساكناً،وهذا الحراك لا شك أن فيه إثراء للحوار والنقاش،ولتعلم أخي محمد أني ما تأخرت في التعليق على وجهة نظركم إهمالاً مني وإنما كان تأخري بسبب شواغل الحياة الكثيرة ،حتى أني من فرط انشغالي لم اطلع على رسالتكم الكريمة إلا في يوم الأربعاء الموافق 2أبريل 2008م، لذا أكرر اعتذاري لكم عن التأخير في التعليق على وجهة نظركم فيما يتعلق بمقالي المعنون "الشيخ الترابي بين رفض التقليد وغياب منهج التجديد"، وأسمح لي أخي محمد في نشر تعليقي هذا على الناس لغرض النفع العام وإثراء النقاش.
والآن إليك وجهة نظري في كتابك،في تعليق وسيط،لا هو بالموجز ولا بالمطول،فأقول وبالله التوفيق.
أولاً:
من دواعي تقريب وجهات النظر أن نتفق أولاً على المصطلح الذي نتناقش من خلاله حتى يكون الكلام أقرب إلى الموضوعية قدر المستطاع،وأظن أن المصطلح الجوهري في موضوع مقالي الذي علقت عليه أنت في كتابك هو مفهوم "قواعد أصول الفقه"، فأنا عندما قلت أن الشيخ الترابي لا يملك قواعد أصول خاصةً به،قصدت أنه ليس له "قواعد كلية ومبادئ عامة تقوم عليها أحكامه الفرعية العملية "،ذلك أن هذه القواعد هي التي تميز فقيه عن آخر، وقد تواطأ أهل العلم على أنه لا تطلق صفة المجدد إلا على من يملك أصولاً يتفرد بها عن الآخرين حتى أنهم لم يروا في الشاطبي مجدداً رغم أنه وسع في فقه المقاصد توسيعاً لم يسبقه عليه أحدٌ من العالمين،لكنه مع ذلك ظل يدور في فلك الإمام مالك ولم يخرج عن أصوله،فهو مقلد ومجتهد على أصول غيره -ولا أقول متبع كما تقول أنت- ،وهذا لم ينقص من مكانته العلمية شيئاً.وصفة المجدد هنا لا تطلق على الفقيه بالمزاج والهوى وإنما وفق معايير محددة تعارف عليها علماء الأصول،فمن لا يجيد قيادة السيارة لا يمكن أن تقول عليه سائق مثلاً "نظرة معيارية" – ومن يحل مسألة رياضية أو فيزيائية بتطبيق قوانين انشتاين لا يمكن أن نطلق عليه وصف مبتكر أو مبدع في الفيزياء،هذا هو منطلقي في كل مقالي يا أخي الكريم.
ثانياً/
الفت نظرك إلى أنني لم أقل إن المجدد يجب أن ينسف أصول السابقين له،وإذا كان الأمر كذلك لما كان هناك تعدد في المذاهب أصلاً،فالمجدد هو فقيهُ رفض أصول غيره وقال هذه هي أصولي،فهو لا يستطيع نسف أصول من سبقوه لاستحالة ذلك عقلاً،إذ أن أصول كل فقيه تمثل رأيه ووجهة نظره التي صاغها في شكل أدوات ارتضاها لنفسه ليولد الأحكام الفرعية عن طريقها – أي أن يفرع عليها الأحكام الفقهية العملية - ومن حق اللاحق من الفقهاء أن يقبل أصول من سبقوه أو يرفضها،فإذا رفضها فإما أن ينتقل إلى أصول آخرين غير تلك التي رفضها أو يوجد لنفسه أصولاً يبدعها لنفسه،فلنتفق الآن على أن قواعد أصول الفقه هي " القواعد أو الأدوات التي يتوسل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة" وهي بالنسبة للفقه كالمنطق بالنسبة للفلسفة.،وبها يتمايز فقيهٌ عن آخر.
وبالرجوع إلى الشيخ الترابي فإنني أقر ثانية ً بأنني لم أطلع على كل كتبه، لكني لم أجد فيما أطلعت عليه من كتبه أي أدوات أو مبادئ وقواعد جامعة تمثل قاسماً مشتركاً لكل آرائه -كما تحب أنت أن تسمى فتاواه-،لذا افترضت فرضاً نظرياً مؤداه أن أصول الترابي التي لم أظفر بها قد تكون مبثوثة في كتبٍ أخرى للرجل غير تلك التي اطلعت عليها،فلما سنحت الفرصة وسأله مقدم برنامج الشريعة والحياة عن قواعد الأصول عنده قلت في نفسي شكراً أخ عثمان لقد حرمتنا من الاتصال بالبرنامج ولكنك سألت عما يختلج في دواخلنا ،وقلت في نفسي أيضاً: الآن وجدت بغيتي فالدكتور الترابي سوف يحدثنا اليوم عن أصوله،ولكن للأسف ومع أن سؤال مقدم البرنامج له عن أصوله كان مباشراً إلا أنه (=الشيخ الترابي) لم يحدد في إجابته أي أصول تعود له هو مبدعها ومبتكرها ،فإن كنت أنا لا أعرف أصوله لأني لم أطلع على كل كتبه فهو بلا شك يعرفها (=أصوله) ، حال كونه محيطٌ بكل ما كتب،لكن إجابته لم تتضمن أي شيء مما كنت أصبو إليه،لكنها مع ذلك كفتني مؤونة البحث في بقية كتبه عما أنا بصدد البحث عنه، وخرجت من ذلك بما هو مثل اليقين بأن الشيخ الترابي لا يملك قواعد في أصول الفقه خاصة ً به هو مبدعها ومنتجها ومبتكرها وبها يتميز عن الآخرين،وما كنت لأعيب عليه ذلك لولا دعوته من بداية السبعينات وحتى الآن إلى تجديد أصول الفقه الإسلامي ،فالذي يدعو إلى تجديد الأصول يجب أن يملك على الأقل شيئاً من أدوات تلك الأصول تكون خاصة به ،وإلا أنه يصبح لا كبير فرق بينه وبين من لا يدعو إلى ذلك التجديد،فالقاسم المشترك بين الاثنين هو العجز.
هذا هو الاستنتاج الذي خلصت إليه من مقدمات مقالي "أن من لا يملك أدوات في استنباط الأحكام فإن أهل العلم الشرعي لا يمكن أن يسبغوا عليه صفة المجدد "اقصد صاحب مذهب مميز".فإذا ظفرت أنت بأدوات في أصول الفقه للشيخ الترابي فنبئني بها وأكن لك من الشاكرين ،لكني على مثل اليقين في نفسي أنه من العبث أن تجهد نفسك في البحث عن هذه الغاية العصية،اللهم إلا أن يكون الشيخ الترابي قد أبدع لنفسه أصولاً في الفقه بعد انتهاء حوار الجزيرة معه أو بعد كتابتي هذا المقال،فذلك شيء آخر،فأنا لم انف عنه إمكانية إبداعه أدوات وأصول لنفسه في المستقبل.
رأيتك أيضاً تبرر للشيخ الترابي صنيعه في عدم الكشف عن أصوله المفترضة عندك،وذلك حين قلت ما معناه أن الإجابة على هذا السؤال (= ما هي القواعد الأصولية عند الترابي؟) لا يمكن أن تتم عبر برنامج تلفزيوني، وهذا أمر فيه من الغرابة ما لا يخفى، فأنت قد تكون خلطت بين قواعد الأصول ومؤيدات قواعد الأصول،فأنا اتفق معك أن هذه الأخيرة قد تحتاج إلى كتاب كامل للبرهان والاستنتاج وتوضيح كيف توصل الفقيه إلى هذه الأصول،أما الأدوات والأصول ذاتها فهي في الحقيقة تكون الإجابة عليها بالترقيم 1- .....2-.....إلخ الذي سخرت منه في كتابك،فأنت الآن إذا سألتني عن أصول الشافعي؟ أقول لك إنها: 1- الكتاب 2- السنة 3- الإجماع 4- القياس ،وهو لم يسبقه إلى ذلك الترتيب أحدٌ من المسلمين، وإذا سألتني عن أصول نجم الدين الطوفي؟ أقول لك: 1- إنه خصص النص بالمصلحة المرسلة ما سبقه إلى ذلك أحد من المسلمين،وإذا قلت لي ما هي أصول محمود محمد طه؟ –بغض النظر عن كل ما قيل عنها – أقول لك إنها: 1- القرآن المكي ينسخ القرآن المدني 2- القول بآيات الآفاق، وهو أيضاً لم يسبقه إلى ذلك أحدٌ من المسلمين،وهكذا أبوحنيفة وابن حنبل و داوود الأصفهاني ،إذا سألت عن أصول كلٍ منهم تجد الإجابة بهذه البساطة، فهل وقت البرنامج كان ضيقاً إلى الدرجة التي لا يستطيع معها الترابي أن يكشف عن أصوله على هذا النحو المبسط الذي ذكرناه آنفاً،وكما قلت لك فيما سبق اتفق معك تماماً في أن الإجابة عن أسانيد الأصول ومؤيداتها النقلية والنظرية هي التي تحتاج إلى وقت طويل بل إلى شرح مطول على النحو الذي نجده في كتب الأصول أما حصر قواعد الأصول نفسها فيستطيع أي باحث في الأصول أن يعدد عليك كل أصول المذاهب في وقتٍ وجيزٍ جدا.وألفت نظرك إلى أن الشيخ الترابي لم يُسأل عن مؤيدات أصوله،ذلك أن مقدم البرنامج أو مخرجه في نظري رجل متخصص فما كان له أن يسأل عن هذه المؤيدات وصاحب الشأن لم يفصح عن أصوله.
ثالثاً/
تقول في كتابك أنني استخدمت أسلوب التشويق حين وعدت في مقدمة مقالي بالكشف عن المنهج الأصولي للشيخ للترابي! وأقول لكٍٍٍ أظنك ظفرت بما شوقتك إليه فخلاصة مقالي انتهيت فيها إلى أن منهج الترابي في الأصول هو (اللامنهج) وأنت نفسك أيدتني في وجهة نظري هذه حين قلت في كتابك الذي بعثته إليَّ ما نصه (إن رأيه في الفتوى "أظنك تقصد فتواه بحل زواج المسلمة من الكتابي" كان فتوى لأحد المسلمات الأمريكيات ورأيه في الجلد للمحصن كان بسبب أنه أراد يضع تشريع حد القانون وأيضاً في حد الخمر وكذلك قضية صلاة المرأة أحتاج إليها في خصوص بحثه في إطار تحرير المرأة وهكذا (........) فكل قضية لها سببها) أ.هـ قولك.
أنشدك بالله أخي الكريم وأنت قرأت الترابي أكثر مني أن تبين لي أدوات الأصول – أي المنهج والقواسم المشتركة العظمى التي بنى عليها الترابي آراءه الفقهية تلك،وكيف استطاع تجاوز النصوص الشرعية في هذه الفتاوى؟ يجوز للمسلمة الأمريكية-على رأيك – أن تتزوج الكتابي ويحرم ذلك على المسلمة السودانية؟ أليست هذه هي الانتقائية التي عنفتنا عليها حين أطلقناها على الشيخ الترابي؟ .
أخي إن قولك "فكل قضية لها سببها" يدل دلالة قاطعة على أنك لا تعلم للترابي منهجاً محددا أو قواعد له في أصول الفقه ،ولا أريد أن أحمل الترابي نتيجة قولك (فكل قضية لها سببها) فأنت بهذا القول نفيت أن يكون للترابي أصول فقه جامعة،مع أن قصدك أن تثبت له تلك الأصول. (كل قضية لها سببها) ،هذا وأيم الله هو الترقيع الذي أبيته أنت على الشيخ الترابي حين وصفته أنا به ،وهذه هي الانتقائية والمزاجية التي زعمت في مقالي أنها من صفات منهج الشيخ الترابي،وهذا بلا ريب يعارض ما سماه فقهاء الأصول بالقواعد الكلية والأصول الجامعة التي يتمايز بها كل فقيه عن الآخر،فإذا أثبت أنت الترقيع والمزاجية للشيخ الترابي فعلام تعنفني أخي ،فهل أنا قلت في مقالي أكثر من ذلك؟.
ولإيضاح ما أقصد به الأصول الجامعة أقول لك مثلاً: لو أنك سألت محمود محمد طه وقلت له : كيف تقول في مذهبك إن بعض الحدود الشرعية لا يجوز تطبيقها في القرن العشرين وأن الديمقراطية يجب أن تحل محل الشورى وأن المهور لا داعي لها في الزواج وأن رئيس الدولة لا فرق عندي أن يكون نصرانياً أو مجوسياً أو مسلما وأن جهاد الطلب عندي ساقط إذا سألته كيف تقول بذلك؟،فإجابته عن كل هذه الفروع والأجزاء ستكون "إن هذه المسائل كلها نظمها القرآن المدني وهو عندي منسوخ بالقرآن المكي (قاعدة كلية جامعة)"، حينها لن تحتاج أخي لمجادلته في هذه الفروع وإنما ستناقش أصوله وتوضح في نقاشك مدى صلاحها من فسادها،هذا مثال على الأصول التي أعني،وأقول لك بمنتهى الأمانة لم أجد في كتب الشيخ الترابي شيئاً من مثل هذا،وهذا هو السبب في أني لم أر فيه مجددا، علماً بأنها ليست رؤية ذاتية من عندي بل هي رؤية مبنية على معايير تواطأ عليها أهل أصول الفقه، وإذا غصبتني على أن أرى على نحو رأيك فإن المنظومة ستختل من بداية تاريخ الفقه الإسلامي وإلى يومنا هذا وسيصبح الكاساني مجددا والسرخسي مجدداً والنووي مجددا إلى نصل إلى العلامة الضرير وعوض عبد الله أبوبكر بل حتى أنت وأنا سنصبح مجددين وعلى المزاج والهوى،وهذا ما تأباه العقول.
رابعاً:
أراك نسبت القياس الفقهي في كتابك إلى المنطق الأرسطي "أو ما سميته أنت المنطق الأغريقي"،إني أخالفك الرأي في ذلك،وفي ظني أن هذا خطأ تورط فيه كثيرون غيرك،فالقياس الفقهي في نظري لا يندرج في هذا الباب أصلاً والذين رفضوه وعلى رأسهم ابن حزم الظاهري –وهو من المناطقة-لم يرفضوه لأنه ينتسب إلى المنطق الأرسطي،فابن حزم حين رفض القياس رفضه حال كونه (=القياس) نقل حكم الأصل إلى الفرع بسبب صفة مشتركة بينهما–هي عند فقهاء القياس علة الحكم - فهو لما نظر في الأمور وجد أن العلة تكون دائماً ظنية لأنها صفة،و الصفات المشتركة بين شيئين كثيرة فاختيار صفةٍ بعينها وجعلها علة للحكم هو اختيار انتقائي ينطوي على ظنٍ غالب والظن الغالب هو شك،وعند ابن حزم أن أحكام الشريعة يجب أن تبنى على اليقين لا على الظن الغالب "فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"الآية، ولا يقين عنده (=ابن حزم) إلا في النص،لذا يجب في نظره أن تبنى الأحكام على ظاهر النص فقط حسب ما تقتضيه دلالة اللغة عند العرب.هذا هو سبب رفض القياس الفقهي عند من قال برفضه.
وإني أرى –كما يرى آخرون- أن القياس الفقهي لا دخل له بالمنطق الأرسطي الذي زعمته في كتابك،وزيادةً في الإيضاح أقول إني من المعتقدين بأن نظم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية انحصرت في أربعة نظم،هي:1- النظام البياني 2- النظام البرهاني 3- النظام العرفاني 4- النظام التجريبي،وكل واحد من هذه النظم المعرفية ساهم في إنتاج الثقافة العربية الإسلامية بقدر – أنظر كتاب "بنية العقل العربي" من مشروع نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري -.
وما يعنيني في هذا الصدد هما النظامان البرهاني والبياني، النظام البرهاني "منطق أرسطو" يتجه دوماً من المحسوس صاعداً إلى التجريد،بينما النظام الفقهي البياني يتجه على العكس من ذلك ،أي من التجريد نازلاً إلى المحسوس "من الميتافيزيك ، من الوحي "النص القرآني" إلى ما هو تاريخي إنساني،هذا من جهة،ومن جهةٍ أخرى يقوم النظام الفقهي البياني على قرائن التشبيه – أي البحث عن وجه شبه بين شيئين- بينما النظام البرهاني "منطق أرسطو" يؤسس على مقدمتين أو أكثر -إحداهما على الأقل بديهية- ونتيجة .
والآن لنطبق هذان النظامان على المثال الدارج عند علماء القياس وهو مثال الخمر والنبيذ، وليكن منطلقنا في البدء بيانياً على النحو التاليً: الخمر ورد فيها نص يقول بتحريمها،وهي في لغة العرب عصير العنب "المسكر"، والنبيذ لم يرد نص من الشارع بتحريمه،وهو في لغة العرب عصير الشعير"المسكر"،الفقيه عندما يعالج هذه المسألة فإنه يجمع الأوصاف المشتركة بين الشيئين أو الأمرين اللذين يريد أن يوائم بينهما بحكم واحد- وهذا يسمى عندهم السبر والتقسيم- والصفات المشركة بين الخمر والنبيذ في هذا الصدد كثيرة منها 1- أن كلاهما من ثمرة زرع 2- كلاهما مشروب 3- كلاهما مختمر 3- كلاهما مسكر. يبحث الفقيه عن وجه الشبه الغالب ،وإذا افترضنا أنه اهتدى إلى أنه هو السُكر ، فأن اختيار هذه الصفة أو الشبه من بين الصفات الأخرى هو ظني ،فإن الفقيه يقول في حكمه إني نظرت في الصفات المتشابهة بين الخمر والنبيذ وهي كثيرة فرجحت أن وجه الشبه الغالب بينهما هو أنهما الاثنان مسكران ،والأول فيه نص "التحريم" والثاني ليس فيه،لذا فإنني نقلت حكم الأول إلى الثاني بجامع هذه الصفة المشتركة "علة الحكم"،فاختياره لهذه الصفة العلة من بين صفات أُخرى هو أمر ظني.
لنطبق نفس المثال مستعملين آلة المنطق الأرسطي الإغريقي وذلك يكون على النحو التالي ( كل مسكر حرام "مقدمة أولى"، الخمر مسكر "مقدمة ثانية"،إذن الخمر حرام، ،كل مسكر حرام "مقدمة أولى" النبيذ مسكر "مقدمة ثانية"،إذن النبيذ حرام ، فتلاحظ معي أنه لا توجد مقايسة بين الخمر والنبيذ على النحو الذي جري في القياس الفقهي البياني ،فالمقدمات في القياس المنطقي تكون يقينية وكذلك النتيجة تكون يقينية أيضا بينما في القياس الفقهي المسألة كلها ظنية ،إلى جانب أنك لا تقيس في القياس المنطقي النبيذ على الخمر أو الخمر على النبيذ ولا تبحث عن وجه الشبه بينهما وإنما تقيس كلاهما على قاعدة يقينية وهي قاعدة كل مسكر حرام ، وإذا أردت أن تقيس النبيذ على العنب في القياس المنطقي فإن النتيجة ستكون فساد ، لأنك ستقول "الخمر مسكر " وهو عصير العنب المختمر "مقدمة أولى" ،النبيذ مسكر "مقدمة ثانية"، إذن النبيذ خمر" ،هذه النتيجة التي يوصلنا إليها المنطق الأرسطي يأباها الاصطلاح اللغوي العربي،فالمواضعة في لغة العرب تقول : إن الخمر هو عصير العنب وأن النبيذ هو عصير الشعير، فالعربي إذا قال لأخيه: ناولني كأساً من الخمر فإنه لا يناوله كأساً من عصير الشعير وإنما يناوله كأساً من عصير العنب والعكس بالعكس،إذن النتيجة التي يوصلنا إليها المنطق الأرسطي هي أن تعطي عصير الشعير لمن طلب منك عصير العنب،فهما شيء واحد،وهذا فساد لا يقول به عاقل ،والسبب في هذا الفساد أن آلة المنطق محلها الفلسفة وهي تعدل القياس في فقه الشريعة،لكنهما أمران مختلفان جداً وكل منهما مؤسس على نظام معرفي يتمايز عن الآخر تمايزاً تاما،إلى جانب ذلك فإن النتيجة في القياس البرهاني قطعية وليست ظنية وهي تؤسس على المقدمات فإذا كانت المقدمات خاطئة كانت النتيجة خاطئة على نحو ما هو في مثالنا هذا وإذا كانت سليمة كانت النتيجة سليمة لكنها في كلا الأمرين نتيجة قطعية لا ظن فيها أبدا بينما القياس الفقهي النتيجة فيه ظنية دوماً لأنه لا يقوم على مقدمات وإنما على علاقة بيانية أساسها وجه الشبه بين المقيس والمقاس عليه. أرأيت أخي الآن أن القياس الفقهي برئ من تهمة أنه ضربٌ من المنطق الأرسطي؟.وإني بعد ذلك أقول بيقين إن القياس صناعة عربية إسلامية مؤسسة على النظام البياني العربي الأصيل،ولا علاقة له بمنطق أرسطو،فمنطق أرسطو أدخله إلى الحقل الديني الإسلامي الإمام الغزالي وهو بصدد جدله مع الفلاسفة حين حاسب بلا وجه حق الفلسفة العقلانية التي تقوم على السببية الصلبة بنقده لفلسفة المشارقة العرفانية ممثلةً في ابن سيناء والفارابي وكان ذلك منحصرٌ في علم الكلام ولا علاقة لذلك لا من قريب ولا من بعيد بالقياس الفقهي ،وأظن أن ابن رشد قد خطأه بحق في كتابه "تهافت الفلاسفة"،فضلا عن ذلك فإنه وضح اختلاف منهج الفسلفة عن منهج الشريعة حين قال في كتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال ، "إن الحكمة –الفلسفة- أخت الشريعة الرضيعة، وأكد فيه على أنه على الرغم من أن غايتهما واحدة وهي الانطلاق نحو الكمال الأخلاقي إلا أن لكل واحدة منهما منهجها على النحو الذي ذكرناه آنفاً ،فإذا ذهبت تطبق منهج واحدة منهما على الأخرى فإنك تكون بذلك قد وقعت في فسادٍ منهجي عظيم.
هذا ما وددت أن أقول بشأن رأيك عن القياس الفقهي ووصفك له بأنه يندرج في باب المنطق الأرسطي الذي سميته أنت في كتابك "المنطق الأغريقي" ولا خلاف لأن أرسطو كان إغريقياً من اليونان.
خامساً:
أراك تطلق الأحكام في كتابك من غير أن تتبعها ببرهان،فأنت جزمت في رسالتك بأن دستور 1998م الذي أشرف على إعداده الشيخ الترابي كان إسلامياً خالصا،من غير أن تبرهن على ذلك،فكنت انتظر منك على الأقل أن تجري بعض المقايسات بين بعض نصوص ذلك الدستور وبعض مبادئ الشريعة الإسلامية،عندها كنت ستصل إلى أن الدستور المذكور كان كله ممازجة بين العلمانية والإسلامية،في صورة ماكرة قد تنطلي على غير المتخصص، اقرأ معي مثلاً نص المادة "65" من الدستور المذكور وهو كما يلي: (الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً ودستوراً وعرفا هي مصادر التشريع ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة الأمر) وبما أنك ذكرت في كتابك إني لا أفهم ما معنى الإجماع عند الشيخ الترابي،فأسمح لي أن أفكك لك هذا النص الدستوري.
يلاحظ أن إجماع الأمة "السودانية مسلمها وكافرها" في هذا النص كمصدر من مصادر التشريع يتساوى في قوته الدستورية مساواة تامة مع الشريعة الإسلامية،لأن المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه عند أهل اللغة"الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة (......)هي مصادر التشريع"،وألفت نظرك إلى أن هذا الإجماع هو غير إجماع الشريعة -الذي هو آلة من آلاتها الداخلية كالقياس تماما-ً،وإنما إجماع الأمة هنا مصدر دستوري للتشريع مساوٍ تماماً للشريعة،فإذا أجمعت الأمة السودانية على أمرٍ يخالف الشريعة فهو إجماع معتبر،وهذه هي فكرة الديمقراطية الغربية وهي فكرة علمانية عقلانية،أما في صنوتها الشورى فلا يجوز للأمة أن تصدر تشريعاً فرعياً وحداً يخالف الشريعة،علماً بأن النص الدستوري الشرعي المقابل لهذا النص هو (الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع) بعد ذلك تعمل أدوات استنباط الأحكام عملها في إنتاج التشريع الفرعي "العادي",ومن هذه الأدوات الإجماع والقياس والمصالح المرسلة...إلخ على نحو المذهب الفقهي الذي يرتضيه أهل البلاد المسلمة المحكومة بالدستور الإسلامي.
لا ريب أن هذا النص الدستوري "م/65" استعار المصطلحات الإسلامية وصاغها في صورة ترضي أهل الايدولوجيا،لكن الأمر عند تفكيكه وتحليله يبدو صارخ في علمانيته ومع ذلك هلل له الأتباع -الذين ينسبون أنفسهم إلى الفقه- بجرأة وثوقية ويقينية لا يتخللها الشك ولا تدع مجالاً لنسبية اختلاف الرأي.
أنظر معي أخي أيضاً إلى نص المادة الرابعة من الدستور المذكور( الحاكمية في الدولة لله خالق البشر والسيادة لشعب السودان المستخلف يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والشورى وينظمها الدستور والقانون)،ألفاظ إسلامية ومصطلحات شرعية إلا أن النتيجة غير ذلك.
الحاكمية لله خالف البشر لا خلاف على ذلك،ولكن السيادة لشعب السودان المستخلف ،شعب السودان هذا فيه المسلم والمسيحي والوثني واللاديني لكن كلهم مستخلفون ،هل هذا ما قالت به الشريعة أم أنه قسر الدين بلا برهان ليوافق الواقع القومي المؤسس على المواطنة،علماً بأن القومية فكرة علمانية لا إسلامية متجاوزة،يقول تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" الآية،فنظرية الاستخلاف وفق هذا النص القرآني أمرٌ منوط بالمسلمين ولا يعني غيرهم في شيء،فهل تستطيع أخي أن تدلني على الآلة الفقهية التي استطاع بها الشيخ الترابي تجاوز هذا النص الشرعي؟
هذا هو الذي دعاني للبحث في أصوله،لكني لم أجد غير "اللامنهج"،وإذا استطعت أنت أن تصل إلى ما يرفع التناقض بين مبادئ الشريعة وبين ما جاء في هذه النصوص الدستورية فدلني أخي الكريم،فأنا تائه.
سادساً:
ذكرت في كتابك ما معناه إني لم أقرأ الشيخ الترابي جيداً،وإني لم أفهم مضامينه لأن للرجل –حسب قولك- طريقة لغوية لا يفهمها إلا ذوي العمق والنظر الثاقب.
دعني أولاً أتهم نفسي بالعي والحصر،فأنا لم أفهم الشيخ الترابي،لذا فإنني أستجير بك حال كونك قرأت الترابي أكثر مني ،فقل لي بالله عليك بكل صدقٍ وأمانة عن ماهية المنهج العام الذي خرجت به أنت من قراءتك لكتاب الشيخ الترابي الأخير " النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع"،ولتعلم أخي أن أي كلام بلا منهج فهو كلام والسلام،جدل وسفسطة،والسفسطة عند اليونان هي الغلاط عندنا.هذه واحدة.
الثانية، إني والحق أقول لم أظفر في كتابه هذا (=الترابي)على هذا المنهج الذي أنشده،وكما قلت لك قد يكون عاقني من ذلك العي والحصر،لكن لتعلم أخي محمد أن علماء النفس والتربية والمناهج كلهم يقولون : (أن ضبابية العبارة تدل على تشوش عقل الكاتب وعدم وضوح الفكرة في ذهنه)،فمن كانت الفكرة عنده واضحة فإن التعبير عنها لا يحتاج إلى حشد الكلمات المفخمة ولا إلى تشديد التفاعيل التي ذكرتها في كتابك،وأنا اتفق معك تماماً أن عبارة الشيخ الترابي عسرة جداً وأنه يحشد كثير الألفاظ للمعني القليل،وهذا ذم وليس مدح كما يبدو للبعض، فالكتابة تكتب ليفهمها الناس،فإذا لم تؤدي غرضها فإنها تصبح آلة فاسدة معطلة،واعلم أخي أن الذين يجنحون إلى هذه الطريقة المعقدة العسرة سرعان ما يرمي الناس كتبهم في المزابل -لأنها عادة تكون خالية من المفاهيم- ،ويبقى ما يفهمه الناس وما يتحدث إليهم بلغتهم التي يفهمون،وما أجمل أن تكون العبارة على قدر المعني،وما أمتعها حين تدل عليه من أقرب طريق،اسمع معي أبوحيان التوحيدي ماذا قال في كتابه " البصائر والذخائر": (وينبغي أن يكون الغرض الأول في صحة المعنى،والغرض الثاني في تخير اللفظ،والغرض الثالث في تسهيل اللفظ وحلاوة التأليف،فخير الكلام على التصفح والتحصيل: ما أيده العقل بالحقيقة وساعده اللفظ بالرقة،يجمع لك بين الصحة والبهجة والتمام).
ولا يسعني أخيراً إلا أن أختم بمقولة للإمام الغزالي عن الايدولوجيا التي تبرمج الرجال وتعطل عندهم آلة التحليل،يقول رحمه الله:( فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائلٍ حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلاً،..وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً،فهم أبداً يعرفون الحق بالرجال،ولا يعرفون الرجال بالحق،وهو غاية الضلال).
وختاماً أقول،هذا ما عنَّ لي بشأن رسالتك التي بعثتها إليَّ على البريد الالكتروني،وإليك مني السلام.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أخوكم/خليفة محمد الطيب السمري

الشيخ حسن الترابي بين رفض التقليد وغياب منهج التجديد!

بسم الله الرحمن الرحيم


الشيخ حسن الترابي - بين رفض التقليد وغياب منهج التجديد.

بقلم/ خليفة محمد الطيب السمري- المحامي

شاهدت حوراً على قناة الجزيرة أجري مع الشيخ الدكتور حسن الترابي في برنامج الشريعة والحياة –حلقة يوم الأحد 9مارس 2008م- وكان موضوع الحوار يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي،ولفت نظري خلال هذا الحوار غير المطول أن بعض إجابات الشيخ الترابي انطوت على شيء من عدم وضوح الرؤية خاصةً ما تعلق منها بسؤال المحاور له عن أصوله "منهجه" في الفتوى والتجديد،وما كنت لأهتم لذلك لولا أن المحاور في هذا البرنامج قدمه بوصفه مجدداً في الفقه وأصوله حين قال: (لكن ضيفنا تقدم خطوة إلى الأمام، فكان من أول من طالبوا بتجديد أصول الفقه وأصول الفقه هو المنهج والقواعد التي يتأسس عليها الفقه والفهم للدين)أ.هـ، ورأيت أن الشيخ الترابي قبل هذا الوصف وارتاح له وهذا ما حفزني إلى كشف قواعد أصول منهج التجديد عنده من خلال ما ذكره هو نفسه في ذلك الحوار.
وفي هذا المقال ليس من همي دراسة الشيخ حسن الترابي السياسي العنيد أو الشيخ حسن الترابي الإسلامي الحركي الفاعل ،فتلك حقائق لا تنكرها إلا عينٌ قذئة ولا يجحدها عليه إلا صاحب هوىً يجانب الحقيقة الموضوعية ،فالرجل ظل رقماً كبيراً يصعب تجاوزه في السياسة السودانية ولا يمكن تخطيه في الخطاب الحركي الإسلامي الفاعل على مستوى العالم الإسلامي،هذا حقه على الناس.
وإنما همي في هذا المقال أن أقارب شيئاً مما دار في الحوار الذي أجراه عثمان عثمان مع الدكتور الترابي في برنامج الشريعة والحياة فيما يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي،وغرضي من ذلك كما ذكرت سابقاً هو الكشف عن منهج الترابي في تجديد الفقه الإسلامي وفق ما ظهر لي من ذلك الحوار، ذلك أن الشيخ حسن الترابي أكد وجزم في هذه الحلقة بأنه لا ينتمي لا لمذاهب أهل السنة ولا لمذاهب الشيعة وهذا يستنبط منه أن الدكتور الترابي أراد من تصريحه هذا الإيعاز لنا بأنه صاحب مدرسة فقهية متفردة لها رؤيتها ومنهجها المستقل عن تلك المذاهب فهو يتفق معها في المصدر – الكتاب والسنة- ولكنه يخالف هذه المذاهب في كون أن له فهمه الخاص للقرآن والسنة وفي كون أن له منهج أداتي في أصول الفقه خاص به،وأن هذا المنهج هو عمدته في الأحكام والفتاوى الشرعية التي أفتى بها مؤخراً وأنكرها عليه كثيرون من فرط جدتها وغرابتها،فهل صحيح أن للدكتور الترابي منهج في أصول الفقه له مؤيداته الشرعية والنظرية "العقلية" التي تلتزم بالموضوعية العلمية على نحو يمكن معه إدراج الشيخ الترابي ضمن قائمة الفقهاء المجددين في الأصول أم أن الأمر غير ذلك ؟.
هذا ما أحاول الإجابة عليه في هذا المقال،وقد حفزني إلى ذلك أيضاً أن الشيخ الترابي نفسه أمّن - في الحوار الذي دار معه - على مبدأ أن الحقيقة في الإسلام ليست حكراً لأحد وأنه ليس في الإسلام رجال دين على النحو الموجود في المسيحية وهذه بلا شك وجهة نظر تسهم في إثراء الحوار وتشجع النقاش الموضوعي وتدفع بحركة الفكر الإسلامي وتجديد فقهه وأصوله إلى ما فيه خير هذه الأمة ونفعها.
وقبل محاولة الإجابة على السؤال السابق ذكره، فإنني استميح القارئ العذر في أن أورد توطئةًً موجزةً عن مفهوم الاجتهاد والتقليد الفقهيين لعل يكون فيها ما يعين على مقاربة موضوع هذا المقال فأقول - والله المستعان- : إن علماء المسلمين وضعوا أسساً وأصولاً لكافة ضروب الفكر الإسلامي،وعندما أقول أصولاً أقصد "القواعد الكلية التي تكون أساساً لفروعٍ كثيرة" فالأصل عندهم هو كل ما يستند إليه غيره ويبتنى عليه، فهم قد عرفوا للدين أصوله وللفقه أصوله وللفلسفة أصولها- بمعنى المنهج العام الذي يكون أساساً للبناء الكلامي أو الفقهي أو الفسلفي..إلخ -وهذا في ظني هو نفس ما أقرته "نظرية المعرفة الحديثة" التي لا تسبغ وصف "المعرفة" إلا على الدراسة الجادة المنظمة التي تلتزم منهجاً كلياً يحكم بناءها النظري بحيث تصب كل جزئيات الدراسة فيه،وميزة القواعد الكلية عند الأصوليين أنها تمثل العلامات الفارقة التي تميز بين فقيه وآخر وعن طريقها يمكن تحديد ما إذا كان الفقيه مقلداً أو مجددا.
وبناءً على ذلك فإن اللاحق من العلماء له أحد خيارين،فهو إما أن يقلد من سبقه ويلتزم بأصول منهج سلفه ومن ثم يبنى ويفرع عليها، وإما أن يتخذ لنفسه أصولاً ومنهجاً خاصاً به يقيم عليه بناءه وتفريعاته على النحو الذي يلبي طموحه و يشفي غليله ،فهو في الحالة الأولى يسمى مقلداً أو فقيه مذهب وفي الحالة الثانية يسمى مجتهداً أو صاحب مذهب لحال كونه أبدع لنفسه أصولاً خاصةً به لم يسبق إليها أو أنه سبق إليها لكنه طور فيها بالإضافة أو التعديل،وفي هذه الحالة الأخيرة يسمى مجتهداً وليس بصاحب مذهب لأنه استعان بأصول غيره وميزته أنه وسع في هذه الأصول وأضاف إليها ومن ثم يسمى من باب التجوز مجتهدا.
وفي هذا الصدد ننتقي بعض نماذج من التراث الإسلامي، فإذا أخذنا الإمام الشافعي مثالاً – وهو أول من ألف في أصول الفقه"كتابه الرسالة" – نجده قد وضع أصولاً لمذهبه كان من بين أدوات استنباط الأحكام فيها "القياس" الذي أورد بشأنه مبررات شرعية وعقلية أيَّد بها نقل حكم الأصل إلى الفرع إذا ما اشتركا في العلة وأقام على هذه الآلة التي تسمى "القياس" كثيراً من أحكامه الفرعية وأصبح بأصوله هذه صاحب مذهب، فلما جاء داوود الظاهري متأخراً عن الشافعي رفض تقليد كل السابقين عليه وأسس لنفسه منهجاً أصولياً أقام عليه بناءه الفقهي الفرعي كله وهو ما عرف بمنهج الظاهرية،وأول ما بدأ به لتأسيس هذا المنهج أنه أنكر القياس الذي قال به الشافعي وغيره وقدم مبررات من المعقول والمنقول على فساد القياس ،ثم جاء من بعده تلميذه ابن حزم وطور في هذا المذهب بأن قدم مؤيدات نظرية عقلية وأخرى من الشرع والمنقول أكد بها على فساد القياس،وبذلك أصبح داوود صاحب أصول متميزة عن أصول من سبقوه،وعلى الرغم من نظرة كثير من الناس إلى أصول الظاهرية على أنها تنطوي على شيء من الجمود والتحجر، إلا أن آخرين ومنهم -محمد عابد الجابري - رأوا في هذه الأصول أنها احتوت على ضروبٍ من الفن المبدع في تجديد أصول الأحكام الشرعية –أنظر فصل عن ابن حزم في كتاب نحن والتراث لمحمد عابد الجابري- ففي نظر هؤلاء أن فلسفة هذا المنهج أسست على رؤية خلاصتها أن النصوص الشرعية محدودة متناهية وأن الوقائع والحوادث لا تنتهي وهي في تجدد دائم وأن داوود وتلميذه ابن حزم كمجتهدين أرادا بتبني هذا المنهج توسيع دائرة المباح وإبقاء كل شيء على أصله ما لم ينقله عن هذا الأصل نصٌ ظاهر،ومن ثم فإن ابن حزم حين أفتى بجواز صلاح المرأة للولاية الكبرى فإنه إنما أسس حكمه هذا على أنه لم يجد في كتاب الله ولا في الحديث الشريف نصاً يمنع ذلك ومن ثم رأى أن يبقى الأمر على أصله وهو الإباحة وقال عن حديث (لا يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة ) أنه ليس فيه نهي ولا أمر وإنما هو مجرد وصفٌ لحال، وبالتزام هذه الأدوات التي ابتكرها جاءت كافة أحكامه الفرعية متناغمة مع المنهج الأصولي الذي أبتدعه داوود الظاهري وساهم هو في تأسيسه وبنائه،وأنت إن أردت نقد داوود الظاهري أو ابن حزم فإنك لا تحتاج إلى نقد فروع مذهبهما وإنما تنقد عندهما الأصول والكليات،ومن هنا تأتي أهمية القواعد الكلية لأن الجزئيات مبعثرة وهي في نفس الوقت غير محدودة،ومثل ابن حزم أيضاً الإمام الشاطبي المالكي مذهباً فهو لما نضج عوده ورأى أنه تمكن من العلم الشرعي وسع في أصول مالك بإبداعه وسائل وأدوات في أصول الفقه وسع بها دائرة مقاصد الشريعة،وقدم على الأدوات التي توسل بها إلى هذا التوسع أدلة نظرية عقلية وأخرى نقلية شرعية- ليس هذا محل بحثها أو الحديث عنها- ومع كل هذا الإبداع فإن كثيراً من الأصوليين ترددوا في وصفه بالمجدد،والمنصفين منهم وصفوه بأنه مجتهد على أًصول مالك والمجتهد الذي يتوسع في أصول غيره قطعاً هو أرفع في الدرجة المعرفية من المقلد،ونموذج آخر من السلف كان حنبلياً مقلدا هو نجم الدين الطوفي فهو لما أحس أن عوده قد نضج وأن فكره استوى وتفتحت قريحته ترك التقليد واستقل بمنهج شيد بناءه على تخصيص النص بالمصلحة وحشد هو الآخر لهذا المنهج أدلة نظرية وأخرى شرعية نقلية فأصبح بذلك صاحب مدرسة متميزة عن مدارس الآخرين، وبسبب عقلانيته وتفرده هذا اتهمه بعض الحنابلة بالاعتزال. ونموذج من المعاصرين الذين فعلوا نفس الشيء وتركوا التقليد واستقلوا بأصول خاصة بهم محمود محمد طه "في السودان" فهو حين رفض التقليد أقام لنفسه منهجاً في الأصول سماه الرسالة "الثانية من الإسلام" ، وبغض النظر عن قول الناس في صحة هذا المنهج أو عدم صحته- فهذا ليس من همنا في هذا المقال- فإن الرجل قسَّم القرآن في أصوله إلى قرآن أصول "القرآن المكي" وقرآن فروع " القرآن المدني" وقال بنسخ الأول للثاني بشروطٍ وضحها وبينها في رسالته، وقدم على أصوله هذه أدلة نظرية وأخرى نقلية -ليس هذا مجال بحثها ونقاشها- وفتح بذلك المجال واسعاً أمام العقل وأصبح صاحب مدرسة ومذهب مميز اندرجت فروعه كلها تحت أصل واحد،ومن ثم جاء بناؤه في فهم الفقه والدين متناغماً حال كونه بناه كله على أصول كلية موحدة أوردها في كتابه "الرسالة الثانية من الإسلام"،فأنت أيضاً إن أردت نقده فإنما تكفيك مناقشة أصوله عن تتبع فروعه فكما ذكرنا سابقاً أن الفروع غير محدودة وتتبعها بالنقد صعبٌ جداً من الناحية العلمية الموضوعية،والأصل أن بحثها ينحصر في نطاق مدى اتفاقها مع أصول من قال بها أو عدم اتفاقها.من هنا تأتي أهمية القواعد الكلية لكون أن من ليس له أصول وقواعد كلية لا يصح وصفه بالفقيه المجدد،فهو في حقيقته يظل مقلدا وإن تظاهر بالإبداع والجدة ما دام أنه خالي الوفاض من أصول ينفرد بها وحده.
وإذا ذهبت تلقاء المتكلمين وجدتهم هم أيضاً قد تمايزوا بمناهج وأصول مختلفة فالأشعري أسس بنيانه الكلامي على يقينيات تناقض المنطق العقلي من مثل نظرية الكسب وابن عطاء المعتزلي أسس بنيانه على تقديم العقل بتأويله النص تأويلاً لغوياً "المجاز"إذا ما جاء في ظاهر عبارته معارضاً لما يقتضيه العقل،ووضع لبنات الأصول الخمسة المشهورة عن المعتزلة عند المشتغلين بالكلام،"علم الإلوهية والتوحيد"،والصوفية هم الآخرون اتخذوا لأنفسهم منهج كلام أسسوه على الزوج ظاهر وباطن،واعتمدوا التأويل العرفاني والعلم اللدني الذي وسيلته عندهم التقوى فكان ذلك أصلا لهم به يعرفون ويتمايزون به عن غيرهم من المتكلمين ،وقد نحى هذا النحو غيرهم ممن اشتغلوا بهذا العلم ،فكان لكل مدرسة أصولها وقواعدها التي تميز بينها وبين الآخرين،فالذي لا يملك أصولاً فهو مهما كانت درجة إبداعه فإنهم لا يرون فيه سوى أنه مقلد يستند إلى القواعد الكلية لمن سبقوا عليه أو عاصروه.
أما الرأي عندي في التقليد،أنه في حد ذاته ليس سبة ولا هو بالعيب، ووجه الحسن فيه،أنه فيه إقرار بفضل الآخرين،وفيه اعتراف بإبداعهم وعبقريتهم، فمحمد ابن الحسن الشيباني على عظمته وأبو يوسف على عبقريته فهما من مقلدي أبوحنيفة النعمان وإن خالفا شيخهما في بعض التفاصيل،وتبعهم في التفريع على أصول أبوحنيفة علماء أفذاذ مثل السرخسي والكاساني ملك العلماء "صاحب البدائع" فأبدعا أيما إبداع،وسحنون وابن القاسم وابن عبد البر على فطنتهم وذكائهم فهم يوصفون بأنهم من مقلدي مالك المفرعين على أصوله وما نقص ذلك من فضلهم ولا حط من مكانتهم العلمية المرموقة شيئاً،وابن قدامة على غزارة علمه فهو مقلد وفقيه مذهب على أصول الإمام أحمد،والنووى صاحب المجموع مع كل نبوغه فهو الآخر مقلد وفقيه مذهب على أصول الشافعي وهكذا غالبية فقهاء المسلمين الذين أثروا التراث الإسلامي بالتفريع على أصول من سبقوهم.وبعضٌ منهم ألف كتباً جمعت بين أراء مذاهب عديدة "الفقه المقارن" ويقف شاهداً على ذلك كتاب بداية المجتهد لابن رشد الحفيد واستذكار ابن عبد البر ومغني ابن قدامة الأمر الذي ينفي ما يؤخذ على التقليد من أنه يؤدي إلى الجمود والتعصب.
وإذا ذهبت على هذا النحو إلى المتكلمين –المشتغلين بعلم الإلوهية والتوحيد– فإن القاضي عبد الجبار والجاحظ على رغم العبقرية وفرط الذكاء العقلي لا يعدوان أن يكونا من مقلدي ابن عطاء المعتزلي، والغزالي على عظمته فإنه في باب الكلام لم يتجاوز ما قال به أبو الحسن الأشعري ،فالتقليد كما ذكرت سابقاً ليس بعيب في حد ذاته -بل هو حسن متى ما عرف الفقيه من أين أخذ صاحبه -وإنما العيب يكمن في التعصب إلى المذهب،مثل ذلك الذي ضرب بأطنابه في العصور المتأخرة حتى أن الأزهر الشريف كان يصلي فيه بالناس أربعة أئمة كل واحد منهم على مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة،وبلغ بالناس الانكفاء إلى المذهب حداً جعل أبا محموداً الكرخي الحنفي مذهباً يقول " كل خبرٍ خالف ما عليه صاحبنا فهو رد" –يقصد أبا حنيفة-،هذا هو العيب أن تكون متعصباً،أما أن تقلد غيرك وتبني على أصوله فذلك فيه إقرار بفضل الآخرين وعلمهم،ولا يقر بالفضل لأولي الفضل إلا أولو الفضل.
هذه التوطئة قد تكون أبعدتنا شيئاً ما عن موضوع هذا المقال فعفواً واعتذارا عن هذا الاستطراد، ووصلاً للموضوع وبناءً على هذه التوطئة أعود لأسال مع مقدم برنامج الشريعة والحياة –عثمان عثمان – عن منهج الأصول الذي بنى عليه الشيخ الترابي فتاواه الأخيرة بعد أن أنف عن تقليد من سبقوه من فقهاء الإسلام وبعد أن نفى عن نفسه الانتماء إلى مذاهب أهل السنة ومذاهب الشيعة معاً؟.فهل للرجل أصولاً معتبرة تجعله يعتد بنفسه إلى درجة التأفف عن التقليد؟ وهل هو بالحق يملك أدوات لاستنباط الأحكام الشرعية تمكن من تصنيفه بين قائمة المجددين المبدعين في الأصول من فقهاء الإسلام من مثل الشاطبي والطوفي أم أن الأمر غير ذلك؟
إجابةً على تلك الأسئلة الحق أقول إنني لم أجد فيما أطلعت عليه من مؤلفات الشيخ الدكتور حسن الترابي ما يفيد أن له أصولاً وقواعد كلية تصلح أن تكون أساساً لمنهج فقهي يوصف صاحبه بالمجدد،وبما أن شهادتي قد تكون مجروحة – حال كوني في موضع الناقد – فإنني أقول إن الشيخ حسن الترابي كفى الناس مؤونة البحث في كتبه وآثاره بإجابته على أسئلة محاور "الجزيرة" عثمان عثمان،فهو حين سأله عن منهجه في التجديد جاءت إجابته –أي الشيخ الترابي- كلاماً عاماً لم يحدد فيه الوسائل والأدوات التي توسل بها إلى التجديد المزعوم،ذلك أننا كنا نتوقع أن يجيب الرجل بمثل ما أجاب به فقهاء الأصول الذين أوردنا بعضاً منهم كنماذج في صدر هذا المقال إذ قال كل واحدٍ منهم هذه هي أصولي مفصلةً وها أقرءوا كتابيا،ولكي نكون أكثر أمانة فيما قلنا عن إجابة الترابي التي انتهينا من خلاصتها إلى أنه ليس له أصول تضعه بين المجددين فإننا ننقل نصها بلا تصرف كما يلي: (عثمان عثمان (مقاطعا): أين أصالة التجديد عند الترابي؟حسن الترابي: أصالة التجديد أصلا في الدين. يعني كان الأنبياء يأتون نبيا بعد نبي يصدق أصول الذي سبقه من قبل{..لما بين يديه من الكتاب..}[المائدة:48] ولكنه يبشر برسول يأتي من بعده، حتى يذكر الناس أن التاريخ مع حركة الحياة وتجدد الظروف والابتلاءات التي يقلبها الله سبحانه وتعالى لا بد من أن يتجدد، القيم تبقى ولكن تتنزل وتتجلى بصور مختلفة. جاء النبي الخاتم بعد ذلك، "ما من نبي من بعدي"، وبعد ذلك بقي على المسلمين أن يأخذوا القرآن الذي خاطب خطابه الأول الأمة تلك وأخرج لنا كل النموذج سنة الله المهدية بالقرآن والمتجلية كذلك ببيانها في سنة المؤمنين جملة المؤمنين يقودهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك لا بد في كل حين يأتي.. المجتمعات تجدد نفسها أبدا حتى تحفظ القيم، لكن إذا جمدتها القيمة بعد ذلك ستظل صورة ثابتة ولكن أصل القيمة ومغزاها سيموت، قد يموت وقد يتبدل)أ.هـ "المصدر-الجزيرة نت".
ألا تلاحظون معي أن السائل سأل الترابي عن أصوله التي يستند إليها في التجديد، وبدلاً من أن يحدد الشيخ الترابي أصوله تحديداً مفصلاً واضح المعالم ذهب الرجل يحدثنا عن مفهوم التجديد نفسه! وكيف أن الأنبياء كان كل واحد منهم يأتي مصدقاً لأصول من سبقه إلى آخر كلامه، أليس في ذلك دلالة على أن الرجل لا يملك أدوات في أصول الفقه تمكن من تصنفيه بين قائمة المجددين؟،وإذا كانت له أصول على النحو الذي يحاول الإيحاء به فلماذا لم يوردها ويوضحها وهو الذي ظل منذ بداية السبعينات يردد ويكرر في كل مناسبة دعوته لتجديد أصول الفقه الإسلامي؟ لا شك أنه لو كانت الأمانة العلمية حاضرة لقال الشيخ الترابي إني لا أملك أي أدوات في أصول الفقه الذي ظللت أطالب دوماً بتجديده،إن دعوتي للتجديد مجرد كلام والسلام!.مثل هذه الإجابة هي فقط التي تعطيه مشروعيه التعريف بالتجديد وأصالته وإيضاح مفهومه للناس،خاصةً وأن السائل لم يطلب منه وضع تعريف لتجديد أصول الفقه الإسلامي.فالشيخ الترابي سئل في جزئية محددة لكن للأسف جاءت إجابته في ناحية أخرى لم يسأل عنها أصلا،وإني لأعتقد جازماً أنه لو كانت في جعبة الشيخ الترابي أصولاً في تجديد الفقه هو صانعها ومبدعها لما ادخر الحديث عنها إلى يوم غد،خاصةً وأنه سئل عنها سؤالاً مباشراً لكنه التف في إجابته على نحو ما رأينا سابقاً.
نموذج آخر نورده من حوار برنامج "الشريعة والحياة" للتدليل على أن الشيخ الترابي لا يملك أصولاً في تجديد الفقه ولكنه لا يعدو أن يكون من المتظاهرين بالتجديد المتأففين من أن تلحق بهم "سبة" التقليد، فهو –أي الدكتور الترابي- حين سأله عثمان عثمان عن الأصول التي بنى عليها فتاواه الأخيرة فإن الرجل –من حيث يدري أو لا يدري- لم يدخر وسعاً في إجابته على تأكيد أنه مقلد على الرغم من تظاهره بالتجديد،وللبرهان على ما زعمت أورد سؤال مقدم برنامج الشريعة والحياة له عن الأصول التي بنى عليها فتاواه الأخيرة وإجابة الشيــخ الترابي عليه،وللأمــــانة أنـقل ذلك بلا تصـــرف: {عثمان عثمان (مقاطعا): دكتور يعني هذه الفتاوى والآراء..حسن الترابي (مقاطعا): سمها الآراء.عثمان عثمان (متابعا): يعني هل تتصل بالمنهج التجديدي للترابي؟ والسؤال الآخر ما هي الأصول التي تستند إليها؟حسن الترابي: طبعا، أنا أولا حفظت القرآن الحمد لله بقراءات من في السجن الحمد لله، في خلوة يوسف عليه السلام مثل خلوة يوسف، وما حفظته كذا نصا كما يحفظه الناس في.. ويتلونه هكذا، يعني بدأت أقرأ كل التفاسير الذين يعنون باللغة والذين يعنون بالكلاميات والذين يعنون بالأحكام والذين يعنون بالأثريات وكلهم وأنا أكتب الآن محاولة تفسير القرآن إن شاء الله يعني، وقرأت كتب الحديث وكتب الفقه وأنا لست متعصبا أصلا، أنا.. السودان مذهبه المالكية ولكن أنا قرأت المالكية من أول الطريق ولكن قرأت الشافعية وقرأت الحنفية والحنفية دخلت علينا، وأنا لست بشيعي ولا سني، أنا لست بطائفي، أقرأ كتب الشيعة الأساسية آخذ منها ما آخذ وأدع ما أدع، ولا أسمي الإباضية خوارج كما يسميهم الناس كأنهم خرجوا من أفق الدين، ولكن أقرأ كتبهم. وهذا لا يعني أنني فقط أرهن نفسي للماضي ولكن أستعين بما بنى قبلي لو أحدث سلفي ثروة أنا أبني عليها ولأنميها ولأزكيها، لو أحدثوا قبلي ثروة فقهية أنا أبني عليها، بعض آرائهم قد تكون أنسب إلى وقتهم دون زماني، بعضها قد يكون في سياق الزمان تبين لي لو عاشوا معي اليوم لرأوا غير الذي رأوا، أراها خطأ من أول يوم وهكذا، وأنا أود أن أعطي شيئا حتى يعني يوم القيامة آتي بشيء أؤجر به عند الله يا أخي، {تلك أمة قد خلت ..}[البقرة:134]، نحن لا يمكن أن نكون في ديننا عالة على غيرنا يعني، نحن يوم القيامة نسأل أفرادا. فهذه محاولات وبعدين أنا طبعا لأنه في حركة إسلام، أنا أشتغل مع الفنانين يا أخي الكريم لأنه هم يرون أنهم يسألون هل هذا حرام، هل هذا حرام؟ لأنهم يرون أن الدين هذا يقف لك بالمرصاد، هذا حرام، يا لطيف، حرام. لكن أريده أن.. بما يفعلون، بما يسر لهم الله في أصواتهم وفيما وهبوا من قدرة على الإيقاعات والنغم أن يدخلوا الجنة يا أخي عبادة لله، والرياضيين يا أخي أتكلم معهم والسياسيين والتجار والحكام والمصلين أقول لهم صلاتكم هذه ليست إلا صورا يا أخواننا، يعني هذه الأفعال لم تفعلونها؟ يعني من قبل قديم الزمان الغزالي قال كل هذا الفقه فقه الظاهر وليس بفقه آخرة، لأنه ترفع يديك إلى أذنيك وتفعل كذا وتحرك أصبعك، الإنسان لا يفهم ماذا يفعل يتحرك كالحيوان ويؤشر بغير معنى} أ.هـ.-المصدر- الجزيرة نت.
ذكر الشيخ الترابي في إجابته حين سئل عن أصول فقهه التجديدي -الأصول الكلية- أنه حفظ القرآن وقرأ التفاسير وكتب المتكلمين وأنه قرأ كتب المالكية والشافعية والأحناف...إلخ،فبالله عليك هل هذا يميز الشيخ حسن الترابي المجدد عن الفكي "الفقيه" مضوي ود اللخمي أو والده الشيخ عبد الله الترابي أو الشيخ محمد مالك القاضي بشيء؟،فهؤلاء هم الآخرون حفظوا القرآن وقرءوا الحديث الشريف وتفقهوا على المذهب المالكي،لكن فضيلتهم أنهم أقروا بأنهم مقلدة ولم ينسبوا إلى أنفسهم أوصافاً لا توافق أحوالهم.وإذا كان الشيخ الترابي كما ذكر يأخذ من كل مذهب ما يناسب الواقع فإن ذلك لا يخرجه من حال كونه مقلدا،مع أنه حين سئل عن فتاواه في أكثر من مناسبة لم يقل بأنه أفتاها على أصول الشافعي أو أبي حنيفة أو أصول ابن حزم..إلخ وإنما كان دائماً ينسب هذه الفتاوى إلى نفسه وإلى منهجه الخاص،فهو حين سئل عن الأصول التي بناها عليها جاءت إجابته على النحو الذي أوردناه فيما سبق وهي إجابة لا تخرجه بأية حالٍ من الأحوال عن دائرة المقلدين، ولا تؤهله للتأفف عن التقليد الذي يرفضه لفظياً ويتبناه واقعاً وعملاً،ولا شك أن المناداة بالتجديد أمرٌ طيب،أما أن تهدم بدون أن تقدم البديل الجديد المؤيد بالنقل والعقل فذلك ما لا يقبله أهل العقول،وكم مرة سمعت الدكتور عبد الله العجلان يقول بصدد الذين يرفضون المناهج التربوية التقليدية وينادون بتأسيس العملية التربوية على الفهم والإبداع من غير أن يبدعوا وسائل عملية لتنزيل دعواهم المتعالمة هذه إلى واقع الممارسة،كم سمعته يقول : (ما أسهل الهدم والنقض والتخريب وما أصعب التشييد والبناء فأنت تستطيع أن تدك عمارة شامخة في سويعات لكنك لن تستطيع بناء مثلها في أعوام)،لذا فإننا ننشد الدكتور الترابي أن يقدم لنا بناءه وقواعده العملية في تجديد أصول الفقه قبل التأفف من التقليد،ويوم أن يقدم أصولاً يؤيدها المنقول والمعقول فإننا سنقبل دعواه هذه،أما وهو خالي الوفاض منها،فإنه لن يقنع من أهل العلم أحداً بمنهجه العنقائي الذي ينادي به،وهو منهج في رأينا لم يخرج عن حيز المزاجية والانتقائية والترقيع لأنه كما ذكرنا لا يستند إلى أصول وقواعد عامة تكون أساساً لجزئياته وفرعياته. وإذا دلفنا إلى بعض فتاواه الأخيرة لنقرأها بموضوعية فهي لا تخرج عن حالين،فهي إما أن تكون مبنية على أصول غيره –مع خطأ في تطبيق بعضها – وهو في هذه الحالة لا يخرج عن حال كونه مقلداً،وإما أنها لا تستند إلى قواعد أصول موحدة وهو في هذه الحالة لا يعدو أن يكون انتقائياً مرقعا،ونورد نموذجا على الحالة الأولى فتواه التي أجاز فيها زواج المسلمة من الكتابي فهو لما حوصر وسئل عن أساس هذه الفتوى قال إنه نظر في كتاب الله فلم يجد فيه نصاً يحرم ذلك أو يمنعه،وإذا سلمنا جدلاً بزعمه هذا فإننا نقول له إن هذه الفتوى تدل على أنك مقلد على الرغم من تأففك من التقليد،وحين سئلت عن أساسها لم تقل بأنك ظاهري ترفض القياس وتأخذ بأصول داوود وابن حزم وإنما نسبت الأمر إلى نفسك مع أنهم سبقوك في توسيع دائرة االمباح بوسيلة رفض القياس والوقوف على ظاهر النص-على رأي الجابري-،ووجه العجب فيما ذكرنا أن الشيخ الترابي مع أخذه في هذه الفتوى بأصول الظاهرية من غير أن يقر بتقليدهم إلا أنه وللأسف حتى أصولهم هذه لم يستطع تطبيقها بوجهٍ صحيح،فالظاهرية يقولون بظاهر النص وبمفهوم المخالفة الذي يستنبط من ظاهر النص،فهم مثلاً حين قال بعضهم بجواز زواج الربيبة غير ذات الحجر "التي لا تقيم مع بعل أمها" –طبعاً في حالة وفاة أمها- فإنهم بنوا ذلك على مفهوم المخالفة المستنبط من القيد الوارد في ظاهر النص القرآني (.....وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم)الآية 23 النساء،فخلصوا إلى أنه بما أن ظاهر هذا النص قيد التحريم بالإقامة في حجر بعل الأم،فمفهوم المخالفة المأخوذ منه هو حِلُ الزواج من الربيبة التي لا تقيم ولم تقم في يومٍ ما في بيت بعل أمها، فالشيخ الترابي حين نظر في القرآن الكريم لم يجد نصاً يحرم زواج المسلمة من الكتابي -كما زعم- لكنه وجد نصاً يحل زواج المسلم من الكتابية وليس في ذلك – حسب رأيه -دلالة على تحريم زواج المسلمة من الكتابي،لأن الأمر يظل على أصل الإباحة –وهذه هي قواعد الظاهرية لا قواعد الشيخ الترابي المجدد كما ذكرنا سابقاً- لكنه في رأينا أخطأ في تطبيق هذه القواعد حين قال بحل زواج المسلمة من الكتابي فظاهر النص يقول ( ...والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ..)الآية 5 المائدة - أي أنهن حلٌ لكم مثل طعام أهل الكتاب- وظاهر النص القرآني أيضاً نظر في ضابط التحريم في الزواج إلى ناحية الذكر ومنها انطلق إلى تحديد من هن حراٌم عليه نكاحهن،فقال تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ...)الآية 23النساء،ولم ينظر في ضابط التحريم إلى ناحية الأنثى فلم يقل سبحانه حرم عليكن آباؤكن وإخوانك...إلخ،وظاهر النص أيضاً في قوله سبحانه وتعالى (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن..)الآية10 الممتحنة،ظاهر هذا النص هو الآخر يؤكد حرمة زواج المسلمة من الكتابي لأن لفظ الكفار يدخل فيه أهل الكتاب بإجماع هذه الأمة،فالكفر لغة هو التغطية واصطلاحاً هو جحود رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعم من الشرك ويدخل فيه الكتابي والمشرك معاً بإجماع علماء الشريعة،نورد ذلك لأن الشيخ الترابي زعم أن ظاهر القرآن يحرم زواج المسلمة من المشرك وليس الكتابي وأحتج بقوله سبحانه وتعالى (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا.)211البقرة، وكأن ظاهر قوله تعالى (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)الآية 10 الممتحنة، كأن ظاهر هذه الآية ليس من القرآن،فإذا كان الله سبحانه وتعالى أمرنا بعدم إرجاع المؤمنات إلى الكفار الذين عقدوا عليهن الزواج قبل إسلامهن فمن باب أولى تحريم تزويج الكافر "كتابياً كان أو مشركاً" ممن ولدت على دين الإسلام.هذا الذي ذكرناه يؤكد أن الشيخ الترابي عجز حتى من أن يكون مقلداً مبدعاً بحيث ينزل الوقائع على قواعد أصول من سبقوه ،فكيف نصدق بعد كل ذلك زعمه بأن بغيته وغايته التي يعمل من أجلها هي تجديد أصول الفقه الإسلامي،وأن له منهجاً خاصاً به يندرج في باب هذا العلم الجليل. أما فتاواه الانتقائية المزاجية فأنا أجد نموذج لها في تنظيره السياسي عن الدولة والدستور فالرجل ظل إلى يومنا هذا ينادي بالديمقراطية –ودولتها بالضرورة تؤسس على القومية والمواطنة-لكنه في نفس الوقت لم ينفك ينادي بالدولة الإسلامية المؤسسة على الشريعة والدين من غير أن يحدثنا عن قواعد الأصول في منهجه التجديدي التي رفع بها التناقض بين الدولة الإسلامية المؤسسة على دين واحد ورؤية فلسفية شاملة لكل ضروب الحياة تختلف تماماً عن نظيرتها في الطرف الآخر –أي الدولة القومية التي أبدعها الغرب وفرضها على كل العالم عن طريق الاستعمار- وهي كيانٌ كما هو معروف يقوم أساسه على تجمع بين أطياف من البشر لا يوحدهم الدين وإنما الذي يوحدهم أرض وحدود جغرافية سماها الغربيون "الدولة القومية" التي لا تنفي الدين عن الحياة –حسب قولهم- وإنما تبعده عن النطاق السياسي.كيف وفق الدكتور الترابي في فقهه وفكره بين هذه النقائض،لا شك أن الجمع بين هذه النقائض لا يولد إلا التناقضات،وهذا نلحظه في دستور 1998م الذي أشرف عليه الشيخ الترابي ومهره بتوقيع يده بوصفه رئيساً للمجلس الوطني السوداني "البرلمان"،فهذا الدستور جاء سملاً مرقعاً لا هو بالإسلامي ولا هو بالعلماني بل مزاجٌ بينهما يضرب النصوص الشرعية في مقتل،ومع ذلك لم يقل لنا الدكتور الترابي عن قواعد الأصول التجديدية التي ابتكرها في فقهه السياسي هذا الذي ألف فيه بين المتنافرات،وقد كنا نأمل أن نجد الإجابة في كتابه الأخير النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع،لكن للأسف لم أجد فيه إي أصول وقواعد جامعة وهذا ليس كلامي وحدي،فقد وصف المفكر الإسلامي والباحث في التاريخ الإسلامي البروفيسور محمد أركون الكتاب المذكور بأنه لا يقوم على منهج علمي حين قال في مناقشته للكتاب بمشاركة الشيخ راشد الغنوشي في برنامج "الكتاب خير جليس" : ( نعم لا يحق لكاتب وكاتب مفكر أن يستعمل اصطلاحاً واحداً دون أن يمعن النظر في تاريخ استعمال هذا المصطلح أولاً،لذلك أكرر أن أساس أي تفكير سياسي يجب أن يكون على التاريخ المحقق لكل اصطلاح يستعمل،هذا الكتاب نجد فيه كما ذكرت أمثال كثيرة،مصطلحات عديدة،مرة تحيله إلى المعجم القرآني،مرة إلى معجم الفقهاء،مرة إلى المعجم الغربي دون أن يحقق بأي معنى ينتمي إلى الغرب ،يعني اختلاط كبير اختلاط كبير ..فوضى ..هذه فوضى مفهومية)أ.هـ.-المصدر الجزيرة نت.
وإذا أنت ذهبت تقارن بين الترابي وبين مفكر إسلامي أًتخذ لنفسه منهجاً التزم فيه أصول من سبقوه مثل الشيخ أبو الأعلى المودودي يرحمه الله تجد عند هذا الأخير التناغم والوحدة الموضوعية في الطرح الفكري بينما تجد عند الأول الأشتات التي لا يربطها رابط،وخذ على ذلك مثلاً تنظير الشيخ أبو الأعلى المودودي في الدولة والدستور،فالرجل رفض الدولة القومية الديمقراطية لأن مبادئها وأسسها في نظره لا تقوم أصلاً على أحكام الدين،ونادى بدولة الحاكمية التي تكون السيادة فيها للمسلمين لا لشعب السودان المستخلف وفق ما جاء في نص دستور جمهورية السودان الذي يعلم منظره الشيخ الترابي أن فيه –أي شعب السودان - المسلم وفيه المسيحي وفيه اللاديني وهم لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يدخلوا في دائرة نظرية الاستخلاف الإسلامية بنص الآية ( وعد الله الذين أمنوا منكم ليستخلفنهم في الأرض..)،وننقل في هذا الصدد كلاماً للمفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي يوضح موقفه من الدولة القومية التي يحاول الترابي التأصيل لها ولديمقراطيتها وممازجتها بالشورى إلى الدرجة التي يعطي فيها إجماع الشعب قوة تشريعية تستطيع إلغاء أحكام الشريعة من الناحية النظرية على الأقل،فلنسمع ماذا يقول أبو الأعلى المودودي في كتابه نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور ( ومن الناس من يقول بتأسيس دولة قومية للمسلمين ولو غير مستندة إلى قواعد الشريعة الغراء،يقولون به ويدعون إليه ويغتنمون هذه الفكرة في المرحلة الأولى،ويزعمون أنه إذا تم لهم تأسيس دولة قومية يمكن تحويلها تدريجاً فيما بعد إلى دولة إسلامية بوسائل التعليم والتربية وبفضل الإصلاح الخلقي والاجتماعي،ولكن شهادات التاريخ والسياسة وعلوم العمران تفند مثل هذه المزاعم وإن نجح مشروعهم فلا شك يكون معجزة.....فليت شعري كيف يمكن أن تكون دولة قومية مؤسسة على طراز الديمقراطية عوناً ومساعداً في استكمال هذا الإصلاح السياسي وانجاز مهمته)، فهذا الرجل اعتمد على أصول واضحة في فقه الشريعة من مثل حصر الشورى في المسلمين وحدهم بنص الآية،وعدم ولاية غير المسلم على المسلمين ..إلخ القواعد الفقهية المعروفة عند السلف والتي فصلها من كتبوا عن الأحكام السلطانية،ونحن حين نقول مرحباً بالتجديد الذي ينادي به الشيخ الترابي فإن من حقنا عليه أن يكشف ويفصح لنا عن قواعده في تجديد أصول الفقه الإسلامي التي استطاع بها ردم الهوة القائمة بين دولة المواطنة الديمقراطية وبين أحكام الدين التي جاءت شاملة لكل ضروب الحياة الإنسانية وإلا فإنه من حق الآخرين أن يتهموه بالانتقائية والمزاحية في كل فقهه هذا.
وختاماً أقول إن غياب أصول الفقه الجامعة وغياب القواعد الكلية في منهج الشيخ الترابي (المجدد)،تجعل دراسته صعبةٌ عسرة،فمن يريد تتبع أعماله بالنقد سيشقى كثيراً،بسبب أنه لن يجد للشيخ الترابي أصولاً جامعة وبناءً تقعيدياً موحداً بحيث تكون دراسته مجزية عن الخوض في الفروع والأجزاء،فالذي يدرس الشيخ الترابي سيجد نفسه مضطراً إلى تتبع جزئياته وفروعه ليؤصل كل فرع على حدة،وهذا أمرٌ فيه من الصعوبة ما لا يخفى ،إذا ما قورن بيسر دراسة الفقهاء الذين لهم أصول واضحة ومحددة.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009

المحكمة الدستورية وقصة الرقابة القبيلة

بسم الله الرحمن الرحيم
وجهة نظر قانونية بشأن قرار المحكمة الدستورية حول الرقابة القبلية على الصحف.
بقلم خليفة محمد الطيب – المحامي.alssamary@gmail.com
ورد في موقع سودانيز أون لاين نقلاً عن صحيفة الرأي العام في عددها الصادر في 9سبتمبر 2009 أن المحكمة الدستورية قررت برئاسة مولانا عبد الله الأمين البشير شطب الطعن المقدم في مواجهة جهاز الأمن والمخابرات الوطني فيما يتعلق بفرضه الرقابة القبلية على النشر بالصحف .وجاء في الصحيفة المذكورة أن المحكمة ذكرت في حيثيات قرارها أن السوابق أثبتت أنه بمقدور الحكومة أن تضع قيوداً على حرية التعبير إذا اقتضت الظروف ذلك وأشارت حيثيات القرار إلى أنه لا يتصور أحد أن يسمح بنشر مادة تدعو إلى عدم احترام العقائد الدينية أو الإساءة للمقدسات دون عقاب،وأوضح قرار المحكمة أن الفصل في التظلم في القرارات يكون في إطار تطبيق القانون من اختصاص القضاء القومي على أن الشفافية والدقة في قضية ممارسة الحريات مسؤولية مشتركة بين الاستحقاق وضبط ممارسته.هذا هو ملخص ما ورد في صحيفة الرأي العام ،وحتى الآن لم يتسنى لي الاطلاع على حيثيات القرار كاملة ،وقد سعيت جاهدا لذلك ولكن باء سعيي بالفشل لعدم توفر المعلومة كاملة عند كتابة هذا المقال، فقد صعب عليّ الحصول على نص القرار كاملاً ،لذا سأكتفي بمناقشة حيثيات القرار التي نقلتها صحيفة الرأي العام ، ولا يفوتني أن أدعو أسأل الله للسادة قضاة المحكمة الدستورية التوفيق والنجاح فيما أوكل إليهم من مهمة صيانة الدستور وحماية الحقوق والحريات،وأذكر نفسي وإياهم بأننا كلنا مجتهدون قضاةً ومحامين وحسبنا عند وقوعنا في الخطأ الظفر بالأجر الواحد،وليسمح سيادتهم في هذا الصدد أن أسجل وجهة نظر مخالفة لما انتهوا إليه في قرارهم محل هذا التعليق فأقول وبالله التوفيق ما يلي:-أولاً: إن فلسفة النظام الديمقراطي تقوم على أساس الموازنة بين الحرية الفردية وأمن المجتمع ومن بين هذه الحريات التي يجب الموازنة بينها وبين أمن المجتمع حرية الرأي والتعبير ونشر الرؤى والأفكار موضوع القرار الذي نحن بصدد مناقشته، ولا شك أ ن النظام الديمقراطي الجيد هو ذلك الذي يُوَفَق إلى إبداع وسائل يحقق بها التوازن المنشود بين الحرية الفردية وأمن المجتمع ،فلا يغلب هذا الأخير على الأولى ،ولا يدع لحرية الأفراد أن تفعل ما تريد بلا قيدٍ ولا ضابط،من هذا المنطلق كانت آلية الفصل بين سلطات الدولة الثلاث ومراقبة بعضها لبعض أفضل آلية عرفتها البشرية حتى الآن لمنع التجاوز والتعدي والطغيان "check and balance " وانطلاقاً من هذه الآلية أصبحت سلطة القضاء في النظم الديمقراطية هي الجهة الوحيدة المنوط بها تطبيق القانون والفصل في تحديد مدى التزام باقي سلطات الدولة به،سواءً كان ذلك في نطاق الطعون الدستورية ذات العلاقة بتطبيق الدستور أو في نطاق الطعون الإدارية ذات العلاقة بالتشريعات العادية واللوائح التنفيذية.في السابق كان السودان من الدول التي توكل أمر الفصل في مسائل الدستور إلى المحكمة العليا إلا أن الحال تغير ،فبعد إجازة الدستور الانتقالي لسنة 2005 أنيط بالمحكمة الدستورية وفق نص المادة 122/1 من الدستور الانتقالي أمر الفصل في الطعون الدستورية وكل ما يتعلق بالحقوق والحريات الأساسية،فقد نصت المادة 122 /1 من الدستور على أنه ( تكون المحكمة الدستورية حارسة لهذا الدستور ودستور جنوب السودان ودساتير الولايات وتعتبر أحكامها نهائية وملزمة،وتتولى : أ..........ب..............ج.......... د : حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية.) ،وبما أنه وفق نص المادة المذكورة تختص المحكمة الدستورية اختصاصاً أصيلاً بحراسة الدستور وصيانته وتختص كذلك بحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية ،وبما أن الطعن الدستوري المقيد في مواجهة جهاز الأمن الوطني يتعلق بحق دستوري أصيل هو حق النشر وحرية التعبير اللذان كفلتهما المادة 39/1 من الدستور الانتقالي لسنة 2009 فإن ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية في حيثيات قرارها من القول بأن الفصل في التظلم في القرارات يكون في إطار تطبيق القانون من اختصاص القضاء القومي يصبح مجرد قول لا سند له من القانون ، ذلك أن القضاء القومي أنيط به أمر الفصل في الطعون الإدارية ذات العلاقة بمخالفة التشريعات والقوانين العادية واللوائح التنفيذية ولا دخل له بصيانة الدستور وحماية الحقوق الأساسية والحريات إلا في حدود ما نصت عليه التشريعات العادية ،ولمزيدٍ من الإيضاح فإننا نؤكد أن الباب الثاني من الدستور الانتقالي لسنة 2005م جعل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية المصادق عليها من جمهورية السودان مرجعية لوثيقة الحقوق المضمنة في صلب الدستور، فقد نصت المادة 27/3 من الدستور على أن ( تعتبر الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزء لا يتجزأ من هذه الوثيقة) ومعلوم أن كل إعلانات الحقوق والمواثيق والعهود الدولية قد أمنت على حرية التفكير وحرية النشر والتعبير عن الرؤى والأفكار فضلاً عن ذلك فإن المادة 39 من الدستور الانتقالي نفسه نصت في الفقرة "1" منها على أن ( لكل مواطن حقٌ لا يقيد في حرية التعبير وتلقي ونشر المعلومات والمطبوعات والوصول إلى الصحافة دون مساس بالنظام وسلامة الأخلاق العامة وذلك وفقاً لما يحدده القانون ) ونصت نفس المادة 39 في الفقرة "2" منها على أنه ( تكفل الدولة حرية الصحافة ووسائل الإعلام وفقاً لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي ) ومن بعد ذلك جاءت المادة 27/4 لتؤكد على أن ( التشريعات تنظم الحقوق والحريات المضمنة في هذه الوثيقة – أي وثيقة الحقوق – ولا تصادرها ولا تنتقص منها) ،وعليه فإن أي طعن قانوني يثار بمناسبة النصوص القانونية السابق ذكرها يجعلنا أمام قضية دستورية محضة لا علاقة لها بالتشريعات العادية أو اللوائح التنفيذية حتى يقال أن أمر الفصل فيها منوط بالقضاء القومي على النحو الذي ذهبت إليه المحكمة الدستورية في قرارها موضوع هذا النقاش.وننوه في هذا الصدد إلى أن المادة 19/4 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م استثنت الحقوق والحريات المضمنة في وثيقة الدستور من أي تظلمات إلى أي جهةٍ كانت ،بل وفقاً لها يرفع الطعن بانتهاكات لحقوق والحريات المذكورة مباشرة إلى المحكمة الدستورية خلافاً لباقي موضوعات الطعون الدستورية التي يوجب نص المادة 19/4 المنوه عنها فيما سبق ضرورة استنفاذ طرق التظلم فيها أمام أي جهة أعلى لها سلطة مراجعة على موضوع الطعن، وهذا يؤكد أن قانون المحكمة العليا جعل من هذه الحقوق المضمنة في وثيقة الدستور حقوقاً خطيرة لا تخضع للتظلمات الإدارية ولا شان لها بالقضاء العادي الأمر الذي ننتهي معه إلى عدم سلامة ما ذهبت إليه المحكمة الموقرة في حيثيات حكمها من القول بأن الفصل في التظلم في القرارات يكون في إطار تطبيق القانون من اختصاص القضاء القومي، فضلاً عما ذكرناه فإن موضوع طلب الطعن الذي تقدم به الطاعنون لم يكن قراراً إدارياً صادراً من جهاز الأمن حتى يقال إن التظلم فيه يكون في إطار تطبيق القانون العادي المنوط أمره بالقضاء القومي ،وإنما كان موضوعه مطالبة المحكمة الدستورية بوقف تعديات جهاز الأمن على حقٍ من حقوقهم الدستورية المكفولة لهم بموجب الدستور و وثيقة الحقوق ومرجعياتها من العهود والمواثيق وإعلانات الحقوق الدولية ،وهي مطالبة تستند إلى المادة 122/1 من الدستور والمادة 15/1/د من قانون المحكمة العليا ،وهاتان المادتان نصتا بعباراتٍ واضحة وصريحة على واجب المحكمة الدستورية في حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية،ومن ثم فإن مهمتها بالنظر إلى موضوع هذا الطعن كان ينبغي أن تنحصر في الإجابة على سؤال مقتضاه هل تعدى جهاز الأمن والمخابرات الوطني على حق نشر الرؤى والأفكار المخول للطاعنين بموجب الدستور أولا؟ وبدورنا نقول إن واقع الحال يؤكد هذا التعدي بعلمٍ قضائي لا يحتاج إلى إقامة الدليل.ثانياً: مزيداً من التوضيح لما أوردته في الفقرة أولا أعلاه أقول إن المادة 48 من الدستور الانتقالي لسنة 2005 أناطت بالمحكمة الدستورية والمحاكم الأخرى - كلٌ في حدود اختصاصه – أمر صيانة وحماية وثيقة الحقوق المثبتة في صلب الدستور وأناطت بها كذلك أمر تطبيقها وحمايتها وجعلت من مفوضية حقوق الإنسان مراقباً لتطبيقها في الدولة ولم تشر من قريبٍ ولا من بعيد إلى أي اختصاص يتعلق بجهاز الأمن فيما يخص أمر هذه الوثيقة، فضلاً عن ذلك فإن المادة 48 السابق ذكرها قضت بعدم جواز الانتقاص من الحقوق والحريات المنصوص عليها في الوثيقة من أي كائنٍ من كان ، ولا شك أن تدخل جهاز الأمن بالرقابة القبلية يعتبر انتقاصاً من تلك الحقوق الأمر الذي يوجب على المحكمة الدستورية التصدي له ومنعه من هذا التجاوز، ولتبيين الأمر أكثر فإننا نورد نص المادة 48 كاملاً غير منقوص ، فقد جاء فيها ( مع مراعاة المادة 211 من الدستور – التي تنظم صلاحيات رئيس الجمهورية في إعلان حالة الطوارئ – لا يجوز الانتقاص من الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذه الوثيقة وتصون المحكمة الدستورية والمحاكم المختصة الأخرى هذه الوثيقة وتحميها وتطبقها وتراقب مفوضية حقوق الإنسان تطبيقها في الدولة وفقاً للمادة 142 من هذا الدستور) ،فهذه المادة أوجبت على المحكمة الدستورية صراحة حماية وصيانة الشق المتعلق بالحقوق الدستورية من وثيقة الحقوق ،فإذا قرأنا هذه المادة في ظل ما نصت عليه المادة "122" من الدستور التي أوردنا نصها فيما سبق ، فإنه يتضح لنا أنه لا علاقة للمحاكم القومية بالفصل في الطعن الدستوري المقدم ضد جهاز الأمن بشأن موضوع الرقابة القبلية التي يمارسها على الصحف، ذلك أن المسألة التي نحن بصددها مسألة دستورية محضة تتعلق بحق دستوري هو حق نشر الرؤى والأفكار،وكنا نأمل من المحكمة الدستورية حماية هذا الحق حال كون ذلك واجب من واجباتها بنص الدستور،لكن للأسف انتهت المحكمة إلى قرارٍ أصاب حق النشر في مقتل وأعان المنتهك على انتهاكه خاصةً وأننا نعلم أن الأحكام الصادرة منها أحكام نهائية غير قابلة للطعن فيها من أي جهةٍ كانت الأمر الذي كنا نتوقع معه التأني في إصدار أي قرار بهذا الصدد إلا بعد تمحيص وطول تأمل خاصة إذا ما علمنا أن الأمر يتعلق بحقوق في غاية الأهمية والخطورة ولا تتعلق بشخصٍ بعينه وإنما بمستقبل شعبٍ وبلدٍ بأكمله.ثالثا: جاء في حيثات القرار موضوع تعلقينا وفق ما ورد في صحيفة الرأي العام أن السوابق أثبتت أنه بمقدور الحكومة أن تضع قيوداً على حرية التعبير إذا اقتضت الظروف ذلك ، وعلى الرغم من أنى لم اطلع على السوابق التي خلصت منها المحكمة الموقرة إلى هذه النتيجة إلا أنني أعتقد بمثل اليقين في نفسي أن عبارة " إذا اقتضت الظروف ذلك " تدل على أن السوابق التي عولت عليها المحكمة في قرارها هي سوابق ذات علاقة أصيلة بحالة الطوارئ ولا شأن لها بسير دولاب العمل في الحالة الطبيعية العادية للدولة،ولا أظن في هذا الصدد أن الطاعنين يعترضون على الرقابة على النشر في حالة إعلان الطوارئ وفق الدستور،ذلك أن الدستور قد نظم حالة الطوارئ في المواد 210،211،212 منه وجعلها استثناءً من الحالة العادية،بل تشدد في أمر إعلانها إلى الحد الذي أعطى معه النائب الأول حق فيتو فيها ،فلا يصح إعلانها إلا بموافقته، وعليه فإن قول المحكمة الدستورية "أنه بمقدور الحكومة أن تضع قيوداً على حرية التعبير..إلخ" يصبح في غير محلٍٍ ولا موضوع ،ذلك أن مثل هذا القول يصح فقط في حالة ما إذا كانت حالة الطوارئ معلنة في البلاد والذي نعلمه أن البلاد تسير على النحو العادي الطبيعي الذي لا يجوز فيه التعدي على حقوق وحريات الأفراد التي كفلها لهم الدستور.رابعاً: وفق ما جاء في صحيفة الرأي العام أيضاً أن المحكمة أشارت في حيثيات حكمها (إلى أنه لا يتصور أحد أن يسمح بنشر مادة تدعو إلى عدم احترام المعتقدات الدينية أو الإساءة للمقدسات دون عقاب ) ،وتعليقاً على ذلك ،نقول إن جريمة الإساءة إلى المقدسات وعدم احترام المعتقدات الدينية كجريمة من الجرائم التي يتصور وقوعها نشرا ،عالجتها التشريعات العادية شأنها شأن بقية جرائم النشر الأخرى سواءً تمثلت هذه التشريعات العادية في القانون الجنائي الذي يعالج المسألة بالعقوبة أو قواعد القانون المدني التي تعالج الموضوع بالتعويض وجبر الأضرار ، ولا شأن لكل ذلك بمسألة طلب حماية الحق الدستوري التي تقدم بها الطاعنون إلى المحكمة الدستورية لمنع تعديات جهاز الأمن، وعليه فإن فرضية ارتكاب جرائم تتعلق بالنشر على النحو الذي ذهبت إليه المحكمة في قرارها لا تصلح في نظري مبرراً أو سبباً قانونياً لشطب طعنٍ دستوري يطلب حماية حق من الحقوق التي نص عليها الدستور وكفلتها مرجعياته المضمنة في صلبه ، ذلك أن مثل هذه الجرائم المفترضة محلها القضاء القومي أو إن شئت قل محلها القضاء العادي، فإذا انتهك أحد نصاً من نصوص القانون الجنائي المتعلقة بالنشر ،أو نشر مادة أضرت بشخصٍ من الأشخاص ، فإن مرجعية الفصل في وقوع الانتهاك من عدمه أو وقوع الضرر من عدمه تنعقد للقضاء القومي وليس لجهاز الأمن القومي ، فله وحده – أي القضاء - يكون القول الفصل في تحديد ما إذا كانت المادة التي تم نشرها تشكل جريمة أو لا ، وله وحده الفصل فيما إذا كانت المادة المنشورة أحدثت ضرراً على الغير يوجب تعويضه أو لا ،فإذا كان جهاز الأمن يرى أن هناك مادة منشورة أحدثت ضرراً بأمن المجتمع أو أنها تشكل جريمة فإنه ينبغي عليه اللجوء إلى القضاء لردع الجاني بجنايته وتضمين المتسبب في الضرر غُرم ما جنته يداه ، ففي ذلك ما يردع غيره مستقبلاً من ارتكاب أي فعل مماثل يدخل في دائرة التجريم أو المسؤولية التقصيرية التي توجب جبر الضرر بالتعويض ، ومع أننا في هذا الصدد نقر بأن من واجب السلطة التنفيذية أن تتخذ التدابير اللازمة لمنع وقوع الجريمة – أي جريمة – فإن هذه التدابير يجب أن تتفق مع نصوص الدستور ونصوص القوانين المرعية ، فإذا خالفت ذلك فإنها تصبح غير مشروعة وتكون عرضة للطعن فيها بعدم الدستورية إن كانت تخالف الدستور أو تمس الحقوق المنصوص عليها فيه أو عرضة للعطن بعدم المشروعية في حالة ما إذا جاءت مخالفة للتشريعات العادية، وإذا قلنا بغير ذلك فإننا نكون قد خولنا جهاز الأمن حق التدخل في صلاحيات السلطة التشريعية ،ونكون بذلك قد جعلنا منه مشرعاً يحدد ما هو مجرم وممنوع وما هو حلال مباح ،وفي نفس الوقت نكون قد بررنا له التعدي على صلاحيات القضاء بتكييفه لموضوعات النشر وتحديد ماذا كانت متفقة مع القانون أو مخالفة له بغير الرجوع للقضاء،وبهذا تكون سلطات الدولة الثلاث قد آلت إلى جهةٍ واحدة اسمها جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وهذا في نظري محض فساد لا يقره العقل السليم .وختاماً أقول أنه بما أن نص المادة 122/1 من الدستور جعل قرارات المحكمة الدستورية نهائية وبما أن المحكمة الدستورية مختصة اختصاصاً أصيلاً بالفصل في الطعن موضوع القرار محل النقاش على النحو الذي بيناه فيما سبق فإنه للأسف لن توجد فرصة لمراجعة حكمها وفق نص المادة 23/5 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م ,عليه فإن مقالي هذا في لغة القانون تكون محله سلة المهملات ،فقرار المحكمة قد صدر وحاز موضوعه على حجية الأمر المقضي فيه فما للطعن فيه بعد ذلك من سبيل ، لذا فإني أتوجه بهذا المقال إلى وجدان التاريخ عسى أن ينفعنا ذلك في مقبل الأيام القادمات لنتحاشى اللغط والخوض في دستورية أو عدم دستورية مشروع قانون الأمن الوطني الذي هو الآن محل جدلٍ ونقاش بين القوى السياسية السودانية ،فهل يا ترى يجئ قانون الأمن الوطني متقيدا ً بما نصت عليه المادة 151 من الدستور أم أن شقة الخلاف على ذلك ستوردنا مهالك الردى؟.. لأسكت قليلاً ولتتحدث الأيام.والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل ،،،خليفة محمد الطيب – المحامي

ملتقى جوبا - إلى المؤتمر القومي الدستوري هل من سبيل؟

بسم الله الرحمن الرحيم


بقلم / خليفة محمد الطيب السمري – المحامي

جاءت اتفاقية السلام الشامل "نيفاشا" كلها ثقوب ليس مثل الجبنة السويسرية وحسب على حد وصف السيد الصادق المهدي لها ،وإنما كانت غربالاً تساقطت كل آمالنا خلال ثقوبه الوسيعة ،فكم كان الناس يؤملون خيراً في هذه الاتفاقية كوسيلة لبناء سودانٍ ديمقراطي موحدٍ وجديد ،لكن الأيام سفهت أحلامنا وتلاشت أمانينا الكواذب مع أول هبة ريح ،وصدق حدس السيد الصادق المهدي ففعلاً قد جاءت الاتفاقية كلها ثقوب ،وما نزاع أببي والخلاف على البترول وقانون الاستفتاء ..إلخ المشكلات إلا شواهد على تداعي الآمال والأحلام وتباعد الشقة بيننا وبين بلوغ غايتنا "بناء سودانٍ موحدٍ وديمقراطي" ،فهاهي الأمور سفرت على حقيقتها بعد أن انزاحت عن الأعين غشاوة فرحة السلام.لقد عشنا تطبيق نيفاشا واقعاً عملياً كشف الأمور على حقيقتها ووضح مواطن الخلل فيها على نحوٍ يراه من به رمد ويدركه العي البليد ، فالخلل الأكبر والجوهري في نيفاشا في الحقيقة أمرٌ يتجاوز العبارة وصياغة النصوص ، الخلل الأكبر في نيفاشا في حقيقة الأمر هو انفراد طرفين فقط من بين كل القوى السياسية بأمرها ،مع أن موضوعها شأنًُ يخص كل أهل السودان دون استثناء أحد ، فهل يا ترى يدرك القائمون على ملتقى جوبا المزمع انعقاده خلال الفترة من 11-15 سبتمبر الجاري هذا الخطأ ،وهل يا ترى تتوفر لديهم الإرادة المجردة من الأهواء التي بها يجعلون مشاركة الجميع مشاركة فاعلة تفتق الأذهان عن رؤى وتصورات مبدعة تتجاوز بنا المحن وتدركنا بعد هذا القعود، أم أن الأمر لن يعدون أن يكون دعوة جَفَلى تنفض بعشاء الآدبين ؟. هذا ما ستكشف عنه الأيام القريبة القادمة،لكني في الجملة أجد نفسي غير متفائل بسبب ما عهدناه في الصراع السياسي السوداني من سلبيات تبذر في النفس الشك وتذهب عنها دفء اليقين ،فالمتأمل في حركة التاريخ السياسي في سودان ما بعد الاستقلال يلحظ بلا شك ضبابية الرؤية و تحكم الأهواء مع غياب توازن القوى بين الفعاليات السياسية السودانية ،فقد ظلت كفة الميزان راجحة دوماً لمصلحة طرفٍ واحد أو أطراف قلائل يسعون بجهدٍ جهيد إلى كتابة الفصل الأخير في تاريخ السودان مع التورط في خلة إقصاء الآخر ووهم تضخيم الذات،وهذا في ظني هو أس البلاء الذي تعاني منه السياسة السودانية ،ولا حل لأزمة الحكم في السودان إلا بإبداع بسلمٍ يشفي من أدواء هذا الفيروس القاتل،وهو للأسف فيروس لا يموت لكنه يتحور ليؤذي المواطن الكادح البسيط لا النخب الحاكمة التي تكافحه بمضادات عدم تفريطها في مصالحها الشخصية ،ولكن نظرتها الآنية هذه لا شك ستصيبها في يوم من الأيام بفقدان المناعة يوم أن يصطرع الكل ضد الكل لا بالحوار الهادي والنقاش النابه وإنما بالدانة والكلاشنكوف ، فهل تحسبنا لذلك وتداركناه قبل أن يأخذنا في غمرته الطوفان؟.أقول هذا ويغلب الظن عندي أن الإقصاء وغياب توازن القوى في وسطنا السياسي سببه عاملٌ متجذر في حنايا لا شعورنا وضاربٌ في أعماق ثقافتنا "ثقافة مجتمعات البداوة في كل السودان شمالاً وجنوبا "، فقد لاحظ ابن خلدون من قبل مجتمعات العرب كنموذج للبداوة وخلص في مقدمته إلى أن المغالبة هي السمة السائدة في سياسة الحكم عندهم، وأن الغالب تخضع له الجماعة خاصة في الدور الأول للدولة ،فإذا ركن الغالب إلى النعومة والدعة ظهرت قوة خشنة تغلبه إلى أن تنعم هي الأخرى فتقفز غيرها على هذا النحو من الدور،أما أن يحفظ للمغلوب حقه السياسي بالتبشير بفكره وطرحه على نحوٍ مسالم فذلك أمرٌ يدخل في دائرة المحظور ولا يعني أهل البداوة في شيء، وللأسف فقد تواطأ المجتمع السوداني على هذا الفهم حتى أن الخضوع للمتغلب أصبح ضرباً من الحيلة والدهاء يندرج في باب المدح لا الذم والقدح ، ولم يبخل موروثنا الشعبي بتوفير التبريرات لهذا السلوك الذميم " العندو الرئاسة ما تكمِّل معاهو الفراسة ".إن المتأمل في ديناميكية الحياة السياسية السودانية يجدها لا تبعد كثيراً عن هذا المنحى المخاتل الذي هو سبب البلوى،منحى المغالبة والخضوع لمن غلب بالقوة الخشنة ،مع أنه في حقيقة الأمر ليس للغالب من قوة إلا القوة التي يمنحها له المغلوب ،فإذا قوي المغلوب عادت بنا الدوائر إلى الصراع الخشن مرةً أخرى وهذا ما أوذينا منه في السودان كثيراً،ولا مخرج من ذلك إلا أن تجمع كافة القوى السياسية على أمرٍ واحد مقتضاه عدم السماح لأي كائنٍ من كان بمفرده أن يزعم لنفسه كتابة الفصل الأخير في تاريخ أمة يقرب تعدادها من الأربعين مليون ، فمصير الجميع ينبغي ألا يقرره نفرٌ قليل وألا تتحكم فيه رؤية واحدة وإلا فإننا سنبقى ندور في دائرة الفشل إلى ما لا نهاية والتاريخ خير شاهد على ذلك ، فهل يا ترى تتوفر لدى القائمين على أمر ملتقى جوبا الإرادة التي تتحلل من هواها لتنجز هذا العمل العظيم؟.عند فجر الاستقلال أرادت القوى المتغلبة في برلمان الحكم الذاتي أن تكتب التاريخ وحدها فكان زعيمها الأزهري ذلك المحنك الذي لا يلوى ذراعه رباناً لهذه الكتابة فماحك الجنوبيين في مطالبهم واستجاب لبعضها مضطراً لا لشيء إلا لأن الإنجليز جعلوا إجماع برلمان الحكم الذاتي شرطاً لازماً للاعتراف باستقلال السودان وكان هذا البرلمان يضم فيمن يضم نواب الجنوب ،ومن هنا كان الوعد لهم بأن يتشاركوا الحكم مع بقية أهل السودان بوسيلة الفدرالية التي طلبوها لكن للأسف بعد أن حققت القوى الغالبة بغيتها من هذا الوعد وهو القعود على مقعد الحاكم العام والانفراد بحكم البلاد أنكرت أصحاب الأمس من الجنوبيين ورمت من والاهم من أهل الشمال بالخيانة والمروق، فكان هذا الدهاء السياسي نذير شر على أهل السودان ومستصغر شرر سرعان من اتسعت نيرانه وشبت فأعيت الطافي ،وشهدت البلاد ذلك التمرد الذي كانت الحرب وسيلة علاجه الوحيدة على أيام الفريق إبراهيم عبود ،وجاءت أكتوبر واحد وعشرين لتعقد مؤتمر المائدة المستديرة الذي تمخض عن نتائج طيبة سرعان ما أفرغتها القوة الغالبة من مضامينها إلى درجة أنها أوجدت تفسيراً جديداً لمفهوم الأغلبية والأقلية الديمقراطيين،ففي كل بلاد الله لا تستطيع الأغلبية مهما كثرت أن تمس الحقوق الدستورية للأقلية مهما تضاءلت وصغرت هذه الأقلية ،إلا أن السودان خلافاً لذلك شهد طرد الشيوعيين من البرلمان استناداً إلى آلية الأغلبية الميكانيكية في البرلمان مع أن الأغلبية الميكانيكية حدود صلاحياتها التشريعات العادية والبرامج المتعلقة بالسياسة التنفيذية للدولة ولا يجوز لها الولوج في التشريعات الدستورية إلا بوسائل جامدة تعرفها كل الديمقراطيات عدا ديمقراطية أهل السودان ، هذه الغلبة جعلت جماعة اليسار لا تتورع هي الأخرى عن التورط في نوعٍ من الإقصاء أشد قسراً وعنفا فكانت مايو فجر الثورة وهيمنة اليسار وباقي القصة معروفة للجميع ،جاء ت مايو وفي جعبتها سلام منقوص سبب نقصه أنها أرادت أن تكتب الفصل الأخير في تاريخ جمهورية السودان ففشلت هي الأخرى حين أقصت الجميع ووقعت اتفاق أديس أبابا مع بعض القوى السياسية الجنوبية التي ظنت هي الأخرى بأنها كاتبة الفصل الأخير في تاريخ الجنوب المكلوم،وما لبثنا قليلاً حتى رأينا تداعي النوائح لندب أديس أبابا التي أصبحت أثراً بعد عين ،لا لسبب إلا لأنها أرادت أن تقول القول الفصل في مصير أهل السودان قاطبة بدون مشاورتهم أو الاستماع إلى أرائهم التي تلاشت في المدى وجاء رجع صداها من القوى الغالبة قهراً وتخويناً ،ثم ما لبثنا أن شهدنا المصالحة الوطنية في 1978م بين غالب ومغلوب جنح إلى المكر والدهاء يوم أن عجز عن حمل السلاح بعد فشل مخططه لقلب نظام الحكم وعشنا أيضاً وعاش الشعب وقرأنا جميعاً القصة إلى نهايتها المفجعة،جاءت رجب المباركة - حسب توصيف الشعب الطيب لها - وشهدنا كوكادام التي اعتقد أنها حاولت إشعال شمعة في الظلام الدامس حين أمنت على أن مخرج أهل السودان في المؤتمر القومي الدستوري الجامع الذي ينبغي أن يضع لبنات شكل الدولة ويفصل لها دستورها بعد مشاورة كافة أهل السودان عبر الوسائل التي تمكن القوى السياسية من التعبير عن رؤاها وإشراك الجميع في حلم بناء الوطن بغض النظر عن الحجم والقوة ،إلا أن الشمعة سرعان ما أطفأتها هوج الرياح يوم أن تسارعت القوى الغالبة إلى تعجيل العملية الانتخابية لتسفر لنا عن المسرحية الديمقراطية السخيفة الهزيلة التي شهدنا فصولها بغير قليلٍ من الاستياء والملل ،فهي بالحق هزيلة حال كونها لم تقو حتى على حفظ نفسها ناهيك من أن تقدم شيئاً للمحزونين والغلابة الذين طال انتظارهم في سموم حر السياسة السودانية.وأخيراً داهمتنا الإنقاذ ،مع أن بعض النابهين من أبناء الحركة الإسلامية نبهوا على خطورة الولوج في هذا الطريق الشائك ، فمن جرب المجرب حصد الندامة ، جاءت الإنقاذ وكانت الغلبة لها لأنها اخشوشنت يوم أن نعُم السيد الصادق ورفاقه ،وفي هذا الصدد يكاد المرء يجزم بأن ناموس ابن خلدون وقوله بالمغالبة لا يصدق على ساسة بلد من البلدان مثلما يصدق على ساسة السودان ، جاءت الإنقاذ بعقيدة لا ترى إلا اللون الواحد موقنة بأنها ستكتب الفصل الأخير لا لأهل السودان بل للعالم قاطبة وكانت في عين أهلها الأوائل أن فكرتها هي عين ما عناه فوكوياما في أطروحة نهاية التاريخ،فلا تاريخ أبدأ بعد المشروع الحضاري الإنقاذي، هذا الاعتقاد الجازم أخرجها أحياناً من دائرة مقولات ابن خلدون عن مداهنة المغلوب للغالب ،لأنها في بدايتها ما كانت تسمح لغير بني جلدتها بشيء من القسمة الضيزى ،فهجر المغلوبون السودان لا زهداً في القطمير ولكن لأن الإنقاذ أبت عليهم حتى مثقال الذرة من المغنم ،لكن ناموس ابن خلدون العجيب دوماً يفعل فعله ،فهو القائل في مقدمته أن المرحلة الأولى من الدولة تتناصر فيها القوة الغالبة ولما تتمكن من الحكم يبدأ أفرادها يبحثون عن المجد ولن يمجدوا إلا بإزاحة من يعترضون هذا المجد من شركاء المغالبة ،وبعد الإزاحة يتحقق المجد ثم تعقبه الدعة والتنعم وفساد المال ثم الدخول في طور التدهور والانحلال .يوم أن سرى هذا الناموس على الإنقاذ بدأ الوهن يدب في عضدها الفتي إلى أن خارت بعض قواها وهذا هو اليوم الذي قبلت فيه إعطاء القطمير ،وكان البدء مع ريك مشار ورفاقه الميامين الذين وقعوا اتفاق الخرطوم للسلام ،طرفان توافقا على تقرير مصير السودان وما لبث أن لحق بهما الوطني جناح الهندي ثم الأمة الإصلاح ولفيفاً من الأفراد ..إلخ منظومة المغلوبين على أمرهم الذين اختاروا المخاتلة والدهاء سلاحاً وسبيلا ، وبما أن هذه التلاقحات في أغلبها زيجات مصلحة فإنها لم تصمد أمام تداعي الحدثان ،فمشكلات السودان أطرافها هم أهل السودان جميعا لا حزبٌ خشنٌ غالب وأقليات تأكل على فتات الموائد ،وما لم يستمد الحاكم شرعيته من التراضي المتولد من إشراك الجميع فإنه لن يحكم بأمانٍ واطمئنان وإن تراءى له ذلك ،فحكماء الصين قديماً قالوا يمكن أن تجئ على أسنة الرماح لكن يستحيل أن تجلس عليها.تجاوزت الإنقاذ كل أولئك الصغار ومالت تحت الضغط إلى نمرودٍ خشن في يده قوة مادية مهولة وحفز معنوي من دولٍ كبرى ،ومالت الإنقاذ هذه المرة تلقاء الحركة الشعبية التي اعترفت بها على مضض رغم الرفض الذي استمر سنين عددا لمبادرة إيقاد إلا أن قوة الخصم وإمكاناته أجبرتها على الجلوس معه وتطويل الأنفاس على نحوٍ لم تعرفه الإنقاذ مع من قالت لهم تطهروا من ماء البحر الأجاج، وفي نشوة غزل التفاوض تورط الطرفان في خطأٍ مقاتله كانت عددا حين ظنا أن ما في أيديهما من قوة مادية كفيلٌ – إذا ما تشاركا – بكتابة الفصل الأخير في تاريخ السياسة السودانية ويوم أن تنادى من صفرت أيدهم من القوة الخشنة يطلبون المشاركة في أخطر أمر يهم كافة أهل السودان أبى طرفا القوة الراجحة إلا أن يتفردا بالمجد الماجد ،وذراً للرماد في العيون ظل كليهما يرمي على الطرف الآخر لائمة إقصاء القوى السياسية من المشاركة في مفاوضات السلام ،وأبى الاثنان إلا أن يقررا مصير أهل السودان باتفاقية هي في الحق تمثل من الناحية الفنية القانونية دستوراً يحكم السودان من غير استفتاء أهله عليه أو إشراكهم في أمره ، ورغم أن نيفاشا قد وجدت من الناس ترحيباً وثناءً عطراً لحقنها الدماء إلا أن كثيراً منهم لم يفطنوا إلى مآل وآثار الإقصاء الذي اكتنفها إلا بعد أن دخلت حيز التنفيذ وتعثرت عجلاتها بسبب تشاكس السائقين وقراءاتهم المتخالفة لنصوص الاتفاق،وإني في هذا الصدد لأعتقد بمثل اليقين في نفسي أن سبب التعثر وأس البلاء لم يكن رمادية النصوص وحدها وإنما سببه الأهم يتجسد في انفراد قوى سياسية دون البقية بتقرير مصير أهل السودان ،وإني لاعتقد أيضا بما يقارب الجزم واليقين أن الصراع الخشن لن يتوقف أبداً ما لم يحدث اعتراف متبادل بين كافة ألوان الطيف السياسي السوداني ،اعتراف يؤمن بلا مورابة بمبدأ أن الحرية لنا ولسوانا ،فوفق تيموس هيجل كل إنسان يسعى لانتزاع اعتراف الآخرين به ولن يتوقف هذا الصراع بين بني البشر في رأي فوكوياما إلا بإبداع الوسيلة التي تحقق هذا الاعتراف المتبادل لكل الناس ، ولم تبدع البشرية حتى الآن وسيلة لوقف الصراع وتبادل الاعتراف أبدع من الديمقراطية التي يتشارك فيها الجميع بناء الوطن الجديد الموحد،وفي نظري لن يتحقق هذا الحلم إلا عبر مؤتمر قومي جامع تشارك فيه كل القوى والفعاليات السياسية صغيرها قبل كبيرها فهل يا ترى يكون ملتقى جوبا نواةً لهذا المؤتمر الجامع؟ هذا ما نصبو إليه،فإن كان شريكا الحكم يريدان للسودان خيرا ً فليشمرا ساعد الجد لإنجاح هذا المشروع وتطويره ليكون ملتقى جامعاً يناقش كل مشكلات السودان ويخرج بما يكون محلاً لرضا الجميع ،وإلا فالطوفان قادم ،فالضعيف اليوم سيقوى غداً ويمارس ما يمارسه أقوياء اليوم ونظل ندور في دوامة الصراع إلى ما لانهاية وربك يكفينا الشرور.والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل ،،،خليفة محمد الطيب- المحامي

دعوة للتسامح - وجهة نظر في منهجية التكفير

بسم الله الرحمن الرحيم
"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" البقرة /256
كثيرون من بيننا لم يشكروا فيوض النعم التي أسبلها الله على أهل السودان من فضيلة التسامح وغيرها مما يتفرد به الإنسان السوداني من قيم،فبدلوا وغيروا وافتتنوا بمناهج متخالفة تضاربت معها المصالح وتشعبت في كنفها الأهواء فكان حصادنا هذا البؤس النكِد، والعيب ليس في اختلاف الأفكار وتباعدها ولا في تعدد الرؤى وتنوعها ،لكن العيب كل العيب في الغلو والتطرف، فالذي يريد لفكرته أن تسود وتنتشر عليه إتباع الحوار الهادي والنقاش النابه،لا حمل الناس عليها كرهاً بالتكفير وامتشاق الحسام ، ورحم الله الإمام الشوكاني حين قال " إن الحق بين المقصر والمغالي والصواب في التوسط بين الإفراط و التفريط".ورحم الله تواضع الإمام الشافعي حين قال " منهجي صوابٌ يحتمل الخطأ ومنهج غيري خطأ يحتمل الصواب" ،والذي يظهر لي أن حاديه إلى هذا القول رحمه الله أن فهم نصوص القرآن والسنة لا يعدو أن يكون عملاً تأويلياً يتأثر بدلالات اللغة عند المخاطب وهذا هو السبب في تعدد المذاهب والجماعات ،ولو صدقت النوايا فإن الخلاف في هذا الصدد لا ينبغي أن يكون سبباً للجفوة والتخوين والتكفير لأنه خلاف طبيعي سببه تباين فهوم المخاطبين ،التي عادةً ما تتأثر بالمحيط الاجتماعي والوسط الثقافي للمخاطب ، ودلالة ذلك أن أهل اليسار المسكونين بنظرية ماركس في الصراع الطبقي وجدوا لها سنداً في قوله تعالى " لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " الآية ، " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً" الآية ،بينما نجد آخرون يرفضون بقطعٍ لا يقبل النقاش تأسيس فكرة الصراع الطبقي على نصوص الشريعة ،الأمر الذي أرى معه أن منهجية الإمام الشافعي ألتي نوهت إليها فيما سبق هي المخرج للجميع من الضيق والحرج ،فالمخرج أن نقرر نسبية الحق في حق البشر وأن يحترم بعضنا بعضاً ،وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما يقع عليه الخلاف على رأي الإمام حسن البنا. أقول هذا وقد حز في النفس ما انتهى إليه أمر الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة التي كنا نأمل أن تكون بديلاً للذين ذهبوا بالدين مذاهب السياسة فباعوه بالدنيا وزخرفها، واكتفوا منه بالشارة والشعار وما عاد يهمهم لبه ولا يعنيهم جوهره بعد أن نالوا بغيتهم من الدنيا والجاه والسلطان،كنا نأمل أن يكون أمر الرابطة الشرعية أمرٌ جدٍ تضبطه الحكمة ويزينه السماح لا أن يكون تورطاً في ما يوقظ الفتنة ويؤجج نار الخلاف، لقد ذهبت الرابطة في تكفيرها لعضوية الحزب الشيوعي السوداني مذهباً حتى لو أيدته ظواهر النصوص فإن مقاصد الدين تمنعه وتوجب التؤدة فيه ، فالتاريخ على مداه قرر أنه ما من فكرة ٍ متطرفة إلا وذهبت إلى مذبلاته، وأنه لم ينتصر فيه إلا التوازن والاعتدال، لذا إن كنا نريد أن نكون بديلاً إسلامياً فالواجب ألا نتورط في الغلو الذي يورد موار التهلكة والردى ،ولنا في التاريخ الإسلامي عظةٌ ،فإنه لما قالت الخوارج : إن علياً كافراً ، قالت الغالية: عليٌ إله ، فرد الفعل دوماً يكون من جنس الفعل ،فالتطرف في الفكرة والموقف ثمرته من جنسه ومن يبذر الحنظل قطعاً لن يحصد التين،لذا نهانا المعصوم عليه صلوات الله وسلامه عن التورط في هذا الفعل المذموم فقد ورد عن الأحنف بن قيس عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هلك المتنطعون ،قالها ثلاثا" رواه مسلم ، وقال النووي في شرحه " أي المتعمقون العادون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ) شرح النووي على صحيح مسلم ، وورد في إعلام الموقعين الجزء الرابع ص 150 أن عبد الله بن مسعود قال : (إياكم والتبدع، وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالدين العتيق" ،وفي الحديث المشهور ( إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفقٍ ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه،فاستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٌ من الدلجة،والقصد القصد تبلغوا" رواه البيهقي ، ولنا في توجيهيه صلى الله عليه وسلم لمعاذ وعلي رضي الله عنهما حين وجههما إلى اليمن أسوةٌ حسنة فقد قال لهما صلى الله عليه و سلم " يسرا ولا تعسرا ،وبشرا ولا تنفرا"، وعند أهل التحليل النفسي أن الرجل المتفائل أكثر قدرة على الإقناع من الكظ النكد، وهذا سر قول المعصوم صلى الله عليه وسلم " تبسمك في وجه أخيك صدقة."، تبسمك سبيلٌ إلى الدعوة أنفع للدين من إطلاق أوصاف التكفير والمروق ، خاصةً إذا ما علمنا أن من صدر بيان الرابطة بحقهم مسلمون أبناء مسلمين ولا يقدح في إسلامهم اعتقادهم في أفكار ماركس ،فماركس رجل فكر قال كثيراً من الحق وخاض في الباطل شيئاً غير قليل، وأفكاره في الجملة لا تعدو كونها تصورات فيلسوف وقراءات رجل فكر درس ولاحظ المجتمع من حوله تماماً كما درسه ولاحظه ابن خلدون وخرج على الناس بتحليلٍ لذلك المجتمع فيه كثيرٌ من الصواب وغير قليلٍ من الخطأ فما الذي يدرينا أن بعض هؤلاء الموصوفين بالكفر يخطؤون ماركس في بعض أفكاره مع اعتقادهم فيما أصاب فيه ، ولا نريد في هذا الصدد الخوض في نقد النظرية الماركسية فذلك ليس من همنا في هذا المقال، ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إليه في مظانه فما أكثر ما كتب أهل العلم في نقدها.إن أمر التكفير فيه من الخطورة ما لا يخفى ،فهو يتضمن قدراً غير قليل من الاعتراض على المشيئة الإلهية " ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك "هود 118 ،فالفصل في هذا الاختلاف لم يترك لأهواء البشر وفهمهم النسبي وإنما أنيط ذلك بالحق المطلق " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيٍ شهيد "الحج 17، فما بال البعض منا يريد أن يقيم نفسه حكماً وفيصلاً بين الناس يوزع الأوصاف على الناس كيف يشاء ،وهو الضعيف القاصر المشدود إلى حبل المصالح والأهواء ،إن المسلم العاقل تجده دوماً متهماً لنفسه لأنه يعلم أن الثقة فيها تورده موارد الردى وهذا ما حدا بالإمام الغزالي أن يحتاط لنفسه ويتورع من التورط في خلة التكفير،فاسمعه ماذا يقول ،يقول عليه رحمة الله " والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دمٍ مسلم " الاقتصاد فيا الاعتقاد ص 157 . ،وفي هذا الباب أيضاً ورد عن العز بن عبد السلام أنه قال : " واعلم يرحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير بابٌ عظمت الفتنة والمحنة فيه وكثر فيه الافتراق وتشتت فيه الأهواء والأراء وتعارضت دلائلهم " العقيدة الطحاوية ص335 ،ونقل عن ابن الوزير كذلك أنه قال : وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم الله تعالى بتكفير عاصيه ،فلا يأمن المكفر أن يقع في مثل ذنبهم وهذا خطرٌ في الدين جليل ينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليمٍ نبيل ".فالخوارج هؤلاء لم يأنفوا عن تكفير علي رضي الله عنه وبالأولى لم يأنفوا عن تكفير أهل التحكيم جميعاً من كلا الطرفين فهم حين قتلوا علياً رضي الله عنه كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ،فابن ملجم كان يردد وقتذاك وإمام العادلين مسجى على الأرض مقتولا قتل غيلة ، كان يردد القول ( لا حكم إلا الله ) ، ولم يتوان شاعرهم ابن حطان في مدح ابن ملجم قاتل أبي تراب إمام العادلين فأنشد يقول :يا ضربةً من تقيٍ ما أراد بها **** إلا ليبلغ من ذي العرش قرباناإني لأذكره يوماً فأحسـبه **** أوفى البرية عند الله ميزاناًفبالله عليك ماذا تقول في رجل يبتغي مرضاة الله بقتل من قال فيه سيد الخلق ( أنا مدينة العلم وعليٌ بابها ) ما تقول فيمن يتقرب إلى الله بهذه الشنائع وهو يحسب بذلك أنه يحسن صنعاً.هذه هي نتائج منهج الغلو والتطرف ولو تباعد به الزمن وانطوت به الأيام والسنين ،فالتاريخ قد يعيد نفسه أحياناً ، لذا فإنه من باب سد الذريعة ينبغي على الكافة قفل هذا الباب ،فاليوم الحزب الشيوعي كافر ولكن يوم غدٍ سيطال التكفير أي مخالف في الرأي ولو كان في علم الشافعي وورع ابن أدهم ،ولنترك الخالق لخالقها، " قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " الكهف /29 ،" أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس 99.لن يكتمل الحديث عن التكفير وبطلان منهجه إن لم نعرج إلى الحديث عن جريمة الردة وكيف أن الفقه الإسلامي قد عالجها.فبداً ابتدر القول فيها بأن الردة من المباحث التي كانت محل خلافٍ فقهي كبير خاصة وأنه لم ترد بشأنها عقوبة دنيوية في القرآن الكريم ،فالآيات التي وردت بشأنها كانت العقوبة فيها كلها أخروية ،ومن ذلك قوله تعالى ( ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة /217 ، ( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذابٌ اليم ) آل عمران /177 ، وغير ذلك من الآيات التي تناولت مسألة الرجوع عن دين الإسلام ،الآية الوحيدة التي تحدثت عن عذاب المرتد في الدنيا هي قوله تعالى ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً شديدً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من وليٍ ولا نصير )التوبة 74 ، قال الدكتور محمد سعيد العوا في كتابه "في أصول النظام الجنائي الإسلامي : ( إن هذه الآية إنما تتحدث عن كفر المنافقين بعد إسلامهم ،ومن المعلوم أن المنافقين لا عقوبة دنيوية محددة لهم لأنهم لا يظهرون الكفر وإنما يخفونه ..والأحكام القضائية في النظام الإسلامي تبنى على ما ظهر من الأعمال والأقوال) ..انتهى كلام الدكتور العوا، وفضلاً عما ذكره الدكتور العوا فإنني أقول إن العذاب الأليم الذي ورد في آية التوبة غير محدد ولا هو معلوم وإنما هو عذابٌ على إطلاق الكلمة وعمومها ويمكن في هذا الصدد لأي مفسر عصري أن يحمله على العذاب النفسي في ظل عموم كلمة عذاب التي جاءت بها الآية الأمر الذي يظل معه اختلاف الرأي بشأن العقوبة قائماً،ولهذا فإن سكوت نصوص القرآن الكريم عن تحديد عقوبة دنيوية لجريمة الردة حدا ببعض الفقهاء إلى القول بأن الردة ليست حداً من الحدود الشرعية،وإنما تندرج في باب التعازير الموكول أمرها إلى السياسة الشرعية للدولة وبرلمانها ،وممن يرون هذا الرأي الدكتور العوا أطال الله في عمره ،فقد جاء في ص 163 من كتابه السابق ذكره ما نصه ( أن الأحاديث التي ورد فيها أن رسول الله "ص" قتل مرتداً أو مرتدة أو أمر بأيهما أن يقتل كلها لا تصح من حيث السند) ،وقد أورد في نفس الصفحة أيضاً حديثاً رواه البخاري ومسلم يؤكد على عدم قتله صلى الله عليه وسلم للمرتد ونصه ( أن إعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقلني بيعتي –أي أقبل تحللي من الإسلام – فأبى رسول الله صلى عليه وسلم ،ثم جاءه ثانية فقال : يا محمد أقلني بيعتي ، فأبى ،فخرج الأعرابي،فقال صلى الله عليه وسلم :إنما المدنية كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها ) ، فهذا الأعرابي قد أظهر للنبي صلى الله عليه وسلم رجوعه عن الإسلام ومع ذلك لم يعاقبه صلى الله عليه وسلم بأي عقوبة دنيوية وإنما فقط نعته بالخبث الذي ينفيه الكير عند إضرام النار والنفخ فيها.ومجمل القول أن الدكتور العوا خلص في مؤلفه السابق ذكره بعد مناقشات طويلة وترجيحات بين الأدلة – يصعب علينا إيرادها في هذا الحيز الضيق- إلى أن عقوبة الردة عقوبة تعزيرية لا شأن لها بالحدود ،فقد ورد عنه في ص166 من كتابه المذكور ما نصه ( وحاصل ما تقدم أن عقوبة الردة عقوبة تعزيرية مفوضة إلى السلطة المختصة في الدولة تقرر بشأنها ما تراه ملائماً من أنواع العقاب ومقاديره ).أيضاً انتهى الشيخ محمود شلتوت عليه رحمة الله إلى مثل ما انتهى إليه الدكتور العوا بشأن عقوبة الردة، فقد ورد في مؤلفه الإسلام عقيدة وشريعة ص301 بمناسبة مناقشة حديث ( من بدل دينه فاقتلوه ) الذي رواه ابن عباس وصححه البخاري ما نصه ( وقد يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر نفسه ليس مبيحاً للدم ،وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم ، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات تأبى الإكراه على الدين ) انتهى كلام الشيخ شلتوت عليه رحمة الله .كل هذا يدلك على أن أمر التكفير والردة ليس بالبساطة التي نتصور ،فحريُ بنا أن نتلطف ونسامح ، وأن لا نجعل للمصالح والأهواء سبيلاً علينا نرسل بسببها تهم التكفير والزندقة والمروق على عواهنها ،وليكن لنا في كياسة عبد المطلب بن هاشم جد صاحب الحوض والشفاعة صلى الله عليه وسلم مثلاً ،فهو حين نهب أبرهة الحبشي إبله بادره بقوله ( أنا رب الإبل وسيدها وللبيت ربٌ يحميه)،فينبغي أن نربأ بالدين أن يصبح ميداناً للمزايدة وتصفية الخصومات السياسية والدنيوية ولتطمئن نفوسنا إلى أن الدين محفوظ بحفظ الله له،فكم عمر الواحد منا حتى يقيم من نفسه وصياً يدعي لنفسه حراسة الدين إلى الأبد – هذا إن افترضنا حسن النوايا وأن غيرتنا لله لا للمصالح والأهواء – ومن باب سد الذرائع ومنعاً للمزايدة بالدين ينبغي علينا أن نتذكر جميعاً أن الله غنيُ في حفظ دينه عنا جميعاً ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، ولنتذكر دائماً أن إرادة الله قضت بأن يكون بيننا من يخالفنا الرأي ليتجلى لنا رأينا الذي فيه نعتقد،فالشيء بضده يعرف ويظهر "ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين ،إلا من رحم ربي) هود/118، فينبغي على الذين يتبنون دعاوى التكفير منا أن يراجعوا أنفسهم وأن يتقوا الله في أهلهم وبلادهم قبل أن تدور بنا عجلة الزمن فيقولون ونقول معهم أُكلنا يوم أن أُكل الثور الأبيض، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.خليفة محمد الطيب – المحامي.

"برفع الرقابة القبلية الرئيس يخرق الدستور ويتعدى على اختصاص الدستورية.""فهل هذه دولة القانون التي ننشد؟"

بسم الله الرحمن الرحيم
"برفع الرقابة القبلية الرئيس يخرق الدستور ويتعدى على اختصاص الدستورية.""فهل هذه دولة القانون التي ننشد؟"
سبق لي أن كتبت مقالاً لا بالمطول ولا القصير ناقشت فيه بعض جوانب من قرار المحكمة الدستورية بشأن الطعن الدستوري المتعلق بالرقابة القبلية على الصحف ،وأبديت في ذلك المقال وجهة نظر قانونية معارضة، لا تتفق مع ما انتهت إليه المحكمة الدستورية في قراراها السابق ذكره ، هذا من الناحية الموضوعية ، أما من الناحية الإجرائية الشكلية فقد نوهت في خاتمة مقالي إلى أن نص المادة 122/1 من الدستور جعل قرارات المحكمة الدستورية نهائية ، وأنه لا أمل حتى في حق المراجعة وفق نص المادة 23/5 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005، حال كون المحكمة المذكورة مختصة اختصاصاً أصيلاً بالفصل في الطعن موضوع القرار، ولمزيدٍ من الإيضاح فإنني أورد في هذا الصدد نص المادة "122/1" من الدستور الانتقالي لسنة 2005 والتي تقرأ ( تكون المحكمة الدستورية حارسة لهذا الدستور ودستور جنوب السودان ودساتير الولايات وتعتبر أحكامها نهائية وملزمة)،وكذلك أورد نص المادة 23/5 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م والتي تقرأ ( أحكام المحكمة وقراراتها نهائية غير قابلة للطعن أمام أي جهة إلا أنه للمحكمة من تلقاء ذاتها أو بناءً على طلب الأطراف مراجعة أحكامها إذا تبين لها أن موضوع القرار أو الحكم لا يدخل في أي أمر ضمن اختصاصاتها بشكلٍ مباشر)، فضلاً عن ذلك فقد نصت المادة 24/1 من قانون المحكمة الدستورية على أن ( أحكام المحكمة وقراراتها ملزمة لجميع مستويات الحكم في السودان وأجهزة الحكومة القومية وحكومة جنوب السودان وحكومات الولايات وللكافة فور صدورها ويحدد قانون خاص إجراءات تنفيذ المحكمة لأحكامها) .هذه النصوص الدستورية والتشريعية أكدت على وجه اليقين أن أحكام المحكمة الدستورية تتصف بالنهائية وعدم القابلية للطعن فيها ،وأنه لا يجوز لها هي نفسها مراجعتها طالما أن موضوع القرار يدخل في دائرة اختصاصها، وأظن أن المشرع قصد بذلك أن يعطي الفصل في المسائل الدستورية نوعاً من التحصين تستقر به أحوال البلاد السياسية لكن للأسف الشديد طالعتنا الصحافة السودانية بخبر يصيب هذا الاستقرار المنشود في مقتل ويطعن دولة القانون في خاصرتها حتى حد الاستغاثة ، فقد قرأت خبراً في يوم الاثنين 28/9/2009م على موقع سودانايل الإلكتروني نقلاً عن رويترز ملخصه أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير أمر برفع رقابة الدولة على وسائل الإعلام يوم الأحد ، وأن الأستاذ علي شمو رئيس المجلس القومي للصحافة صرح لرويترز أنه حضر اجتماعاً مع الرئيس البشير أمر فيه بوقف الرقابة ابتداءً من يوم الأحد .لا شك أن مضمون هذا الخبر سار ومفرح لكل إنسان ينشد الحرية ويأمل في بناء سودان ديمقراطي تحترم فيه حقوق الإنسان ، لكن من ينظر إلى جوهر الأشياء ويدقق في حقائق الأمور فإنه بلا شك يصاب بغير قليل من الاستياء والإحباط، ذلك أن الحرية التي تمنح بهذه البساطة يمكن أن تسلب في أي وقت بذات البساطة ، ولا شك أيضاً أنه لا قيمة لحرية لا تحترم مرجعياتها التي توافق عليها الناس المعنيون بتلك الحرية .لقد حز في النفس ما تضمنه ذلك الخبر من تعدٍ صارخ على حكم قضائي صادر من جهةٍ مخولة بموجب الدستور للفصل في المسائل المتعلقة بالحريات والحقوق الدستورية،لقد استمعت تلك الجهة "المحكمة الدستورية" إلى مرافعات الطاعنين والمطعون ضده "جهاز الأمن" وانتهت في قراراها إلى أنه وللحيثيات التي أوردتها في صلب حكمها يحق لجهاز الأمن ممارسة الرقابة القبلية على المنشورات وفق الضوابط التي نوهت إليها في قرارها ،وبهذا يكون قراراها قد حاز النهائية وتحصن ضد الطعن فيه من أي جهةٍ كانت ووجب نفاذه على الفور بغض النظر عن سلامة أو عدم سلامة القرار من الناحية الموضوعية ، هذا إذا كنا فعلاً نريد أن نبني دولة قانون يحتكم الناس فيها حين يحتدم الخلاف بينهم إلى القضاء ، أما الذي تم ووقع فهو في حقيقة الأمر تدخل سافر في عمل القضاء لا تقره الأعراف الديمقراطية ،فضلاً عن أنه عمل ذو طبيعة سياسية لا علاقة لها بالقانون والتقاضي، وفي هذا الصدد أنوه إلى خطورة التدخل في عمل القضاء ، وإن كنا قوماً ناصحين فإن في التاريخ القريب لنا عظاتٌ ملهمات ، فكلنا نذكر كيف تأبى الساسة وتمنعوا من تنفيذ حكم المحكمة العليا في العام 1968 بشأن القضية الدستورية المتعلقة بطرد الشيوعيين من البرلمان فكانت عاقبة ذلك سيلاً من الدماء ودكتاتورية أهلكت الحرث والنسل وما ورثنا منها سوى الخزي والبوار ، لقد غار قضاة السودان وقتئذٍ على كرامة القضاء وقدم السيد بابكر عوض استقالته احتجاجاً على تأبي الحكومة تنفيذ قرار المحكمة العليا وكان موقفه وموقف زملائه بالجد مشرف للقضاء السوداني ،فهل يا ترى يعيد التاريخ نفسه في ظل هذا الوهن الذي أصاب كافة مرافق الدولة ومؤسساتها؟ .قد يقول قائل إن القرار صدر لمصلحة جهاز الأمن ،وأن المحكوم له في حكمٍ قضائي أياً كان يجوز له التنازل عن حقه وصلاحياته التي خولها له الحكم القضائي،وبما أن رئيس الجمهورية هو رأس السلطة التنفيذية كلها فإنه يحق له التنازل عن حق الرقابة القبلية الذي قررته المحكمة الدستورية لجهاز الأمن الوطني ؟قد يبدو لأول وهلة أن مثل هذا القول صحيحاً ،ولكن عند التأمل يبين الخطل، ذلك أن الأحكام القضائية الصادرة لمصلحة الإدارات العامة والمؤسسات الحكومية يطبعها طابع النظام العام ،فلا يحق لأحد أن يتنازل عن الحقوق المكفولة فيها ،خاصةً إذا ما علمنا أن هذا الفرد الأحد مجرد وكيل وليس أصيلاً ولا صاحب حق ، وإذا قلنا بغير ذلك فإنه يجوز لرئيس الجمهورية ولأي وزير أن يتصرف في أموال وزارته على النحو الذي يراه بلا قيد ولا ضابط سوى ما يميله عليه هواه .إن تدخل رئاسة الجمهورية ووقفها لموجب حكمٍ قضائي صادر من جهة ذات اختصاص لا شك فيه من الخطورة ما لا يخفى ، ويجب أن لا نفرح كثيراً حال كون تدخل رئاسة الجمهورية جاء هذه المرة في مصلحة حرية النشر والتعبير ، فالحرية أبداً لا يتوسل لها بخرق أساسها وانتهاك وسائل ضماناتها التي رسمها الدستور "المحكمة الدستورية" ، فالمحكمة الدستورية يجب أن تحترم ويجب أن تكون قراراتها -لنا أو علينا – محل توقير وتبجيل ، ولا توقير لها ولا تبجيل إلا بسريانها على رؤوس الكافة بما في ذلك رئيس الجمهورية . وإلا فإننا سنندم يوم غد ٍ حين تصدر أحكامها لمصلحتنا ويتدخل ذات رئيس الجمهورية ويمنعها من النفاذ، وبذلك يصبح وجود هذه المحكمة وعدمه على حد سواء ،ولن تعدو إذا ما عطلت أحكامها وصلاحياتها أن تكون ديكوراً وشكلاً للدعاية السياسية في مواجهة العالم المتحضر ،فإن كانت لأمريكا وفرنسا وبريطانيا محاكمها الدستورية فلنا أيضاً محاكمنا الدستورية التي تحمي حقوق الإنسان مع علمنا التام بأنها – أي محاكمنا – موضوع لتدخل السلطة التنفيذية عند كل صباح يوم جديد ،ولا شك أن مثل هذا التدخل سيفقد القضاء السوداني هيبته ،ويفقده الثقة محلياً ودولياً ، فإذا جاءت الجنائية الدولية أو غيرها من المؤسسات الدولية تتهم قضاءنا بالانحياز وعدم الكفاءة فينبغي أن لا نضجر ونثور فعلى نفسها جنت براقش.إن بسط الحريات جميعاً بما في ذلك حرية النشر والتعبير كان ينبغي أن يتوسل إليه بإصلاح القانون وإصلاح مؤسسة القضاء لا بالتعدي على هذه المؤسسة التي هي صمام أمان استقرار المعاملات ،عامةً كانت هذه المعاملات أو خاصة ، كنا نأمل أن ينجز هذا التحدي عن طريق إصلاح المحكمة الدستورية نفسها بتخويلها مزيداً من القوة والثقة كأن نسعى لأن يتم تنصيب قضاتها عن طريق الانتخاب لا التعيين وأن توضع الآليات الكفيلة بوضعها في موضع الحياد التام ، كنا نأمل أن يتم إنجاز هذا التحدي بمراجعة كافة القوانين على ضوء الدستور الساري في البلاد والتصدي لمشروع قانون الأمن الوطني الجديد وتقييده بنص المادة 151 من الدستور .فمثل هذه الإجراءات هي وحدها التي تكفل حرية للنشر والتعبير تتسم بالديمومة والاستمرار ، أما أن نفرح لمجرد قرار مؤقت يدك حصناً من حصون العدالة لقاء أن ننمق بضعاً من الكلمات فذلك لا يعدو أن يكون ضرباً من توفير ركنٍ للنائحين يركنون إليه لمؤاساة الذات بذرف الدمع السخين ، فالتعبير لن يجدي ولن يغير شيئاً طالما أن صاحبه يعلم أنه منحة مانح وعطية مقتدر، وإنما الذي يجدي الحق الذي تحميه القوانين والمؤسسات ، وهذا يوجب علينا أن نقف إلى جانب قضاة المحكمة الدستورية لنقوي مواضع ضعفهم حال كون قوتهم قوة لنا جميعاً ، ويجب علينا أن كنا ننشد الخير لأنفسنا أن نقف معهم لتنفيذ ما انتهوا إليه في قرارهم موضوع هذا النقاش حتى ولو كان فيه علينا ضرر آني ،فعلى المدى الاستراتيجي البعيد نكون بتقويتهم قد كسبنا مغانم لا تحصى، ولنرفض تدخل الرئيس في إيقاف منطوق حكمهم ولنقبل رقابة جهاز الأمن علينا جميعاً طالما أنه صدر بها حكم قضائي ، فإذا فعلنا ذلك ستقوى عزائمنا ليوم الكريهة والنزال ،نزال إصلاح القانون وإصلاح المؤسسات عبر العملية الديمقراطية التي تعود على الجميع بالخير والاستقرار ومن هذا المنبر فإني أناشد كافة القوى السياسية وكافة القانونيين ،قضاة ومحامون ، بمعاضدة المحكمة الدستورية وشد أذرها لتؤدي رسالتها وواجبها في صيانة الدستور وحفظه، وعند ختامه أقول إن دستور 2005م في وجهة نظري هو أفضل وثيقة دستورية عرفتها البلاد منذ الاستقلال ،فهلا اجتهدنا لإنزالها إلى حيز التطبيق،وهلا سعينا لأن تكون دستوراً دائماً للبلاد بعد استنفاد ما هو مؤقت منها لغرضه، لتكون تلك غاياتنا إن كنا فعلاً ننشد للبلاد أمناً واستقرارا،فإن لم نفعل فلا محالة الطوفان آت.والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،