الخميس، 17 فبراير 2011

أحقاً قضيتنا التطريب والمعازف؟


الإكتئاب العام كثيراً ما تنتج عنه ظواهر اجتماعية جديدة، بعضها يصب في خانة الإبداع، وأكثرها يصب في خانة الهروب من الواقع، ليفرز لنا لا مبالاة في كل ضروب حياتنا، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية منها، فأنت إذا تأملت واقع الشعب السوداني في وقته الحاضر، تجد نفسك أمام ظواهر كثيرة تلفت ناظريك ، وتجبرك أن تربط بين علاقاتها بحثاً عن أسبابها وجذورها، وعوامل انتشارها وذيوعها، مثلاً أن يتحول غالبية الشباب في مجتمع ما إلى مغنيين ومدندنين ومداح وضاربي دفوفٍ وأعواد ، في ظل هذه العطالة والفقر المدقع ،فإنه لا تفسره إلا نظريات الاكتئاب العام، ومن قبل قال الدكتور زكي مبارك بصدد نقده للتصوف (إنه وصفة شعبية لعلاج اكتئاب اجتماعي)، وحقاً قد أفلح شباب السودان في تركيب وصفات الدندنة لتعزية أنفسهم ومؤاساتها، فبدا أنهم يتظاهرون بالطرب لكنه في الحقيقة طرب المذبوح من الألم، نقول هذا ولسنا من الغلاة الذين يقفون إلى صف تحريم السماع بإطلاق ،ونصيرنا في ذلك ابن حزم الأندلسي ، ورأيه في السماع معلومٌ ومشهور، ومن المشهور أيضاً عن الإمام الغزالي قوله في هذا المقام : ( من لم يهزه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج)، وإنما الذي لفت نظرنا ودعانا لمعاضدة من يقولون بسلبية هذه الظاهرة التطريبية المنتشرة بيننا الآن، أن كل ضروب الفنون الأخرى من الكتابة والإبداع والابتكار الذي ينتج حلولاً لمشكلاتنا قد توارت في ظل هذا السيل الجارف من الدندنات، فأنت متى ما جلست تشاهد أية قناة سودانية إلا وانداحت إلى طبلة أذنيك فيوضٌ من جيد الغناء وغثه ،حتى يصاب رأسك بالدوار، لكنك من النادر جداً أن تسمع حواراً فكرياً، أو نقاشاً حول كتاب، أو فكرةً مبتكرة تعالج قلة انتاجنا، أو كساد بضاعتنا وصادراتنا، فهل نحن أهل سفهٍ وغناءٍ وتطريب ، غايتنا في الدنيا أن نتراقص ولو لم نملك قوت يومنا على رأي ابن خلدون في أهل جوارٍ لنا؟ ، أم أن الأيام باعدت بيننا وبين تأثيرات المغاربة الذين وصفهم الرجل في مقدمته بقوله: (تجد الواحد منهم في همٍ وغمٍ وإن ملك قوت عامه) بسبب الإغراق في التأمل والتفكير، فكان منهم ابن رشد الحفيد الذي وصل الغرب كله بطريقة اليونان (أرسطو)التي أفضت إلى ما نراه اليوم من تقدمٍ مادي في حياة الغرب والإنسانية جميعا ؟، الحق يقال إن أهل السودان في جملة طباعهم إلى أهل المغرب العربي أقرب، وبفضل الله، ثم بتأثيرات المتصوفة المهاجرين من تلك البلدان ظلت شخصية السوداني - رجلاً أو امرأة- طابعها الحياء والاحتشام، حتى أنه من المشهور بين كبارنا أن الواحد منهم إذا غشيه طائفٌ من الضحك أو التبسم يجنح إلى وضع طَرَفٍ من ثوبه على فمه ليداري هذا الفعل (الذي لا يليق برجولة الرجال) ،وقد صوَّر لنا الأديب الطيب صالح عليه رحمة الله، مشاهد من ذلك في روايته موسم الهجرة إلى الشمال فسمعنا معه ( ود الريس) يطلب من الله المغفرة بعد أن تورط في بعضٍ من الضحك القسري، ( مسح دموعه بطرف ثوبه ،وقال :استغفر الله).
أصوغ هذه التوطئة لألج عبرها إلى الأمسيات الخرطومية، التي خلصنا من (موالها)، وقلنا انفض سامرها ،فإذا بأمسيات أمدرمان الموسيقية تمطرنا انصرافاً عن جوهر القضايا، وبعد غدٍ على هذا (الدف) ستكون ليالي بحري، ثم مدني وبورتسودان، للأسف في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد نتشاغل، ونتشاغل ، وكأن ميزان مدفوعات الاقتصاد سيغذى بالغناء والتطريب، إنه فعلاً زمان السحر والشعوذة ، بلادٌ نقصت من أطرافها، ودارفورها تشتعل، واقتصادها تحدق به الاخطار من كل الأنحاء، وفي كل بقعةٍ منها مشكلة، ثم بعد ذلك تجنح الجهات الرسمية فيها إلى رعاية مزيدٍ من التشاغل والانصراف! إنها فعلاً بلاد العجائب والغرائب.
كثيرون من بيننا، اتهموا مثل هذه السهرات المجنحة ،والمسافرة في اللاواقع بأنها تبديد للمال ، خاصاً أو عاماً، فإنه في وجهة نظرهم سفه، وأنه من الأولى أن يدعم به الفقراء والمحتاجين، أو أن تطبع به كتبٌ مدرسية تلاميذنا في أشد الحاجة إليها، وبعضٌ آخر ذهب إلى القول بأن هذه السهرات القصد منها إشغال الشباب عن مشكلاتهم الحقيقية، وتشتيت طاقاتهم، حذَرَ أن يقع منهم ما وقع من شباب تونس الخضراء ومصر المجيدة، إلى غير ذلك من الآراء، لكني في هذا المقام أزيد ،وأقول: إن الجهات الرسمية لم توفق في رعاية تلك الليالي الموسيقية، ذلك أن مجال التطريب والفن والموسيقى أضحى في مجتمعنا تجارةً لها شركاتها،وسماسرتها، ومروجوها، وبلغ الأمر بانتشار بضاعتها أن الغث منها ملأ أسواقنا حتى تأذت منه الأذواق، لذلك كان أجدر، وأليق بالجهات الرسمية أن توجه رعايتها إلى مجالات إبداعٍ ضمُرَت وتجافاها الناس زمناً طويلاً، فالدكتور حيدر إبراهيم علي حكى للجميع تجربته مع المكتبة المدعومة التي حاول عبرها نشر الكتاب بين جمهورٍ لم يقو على توفير ثمن الخبز، دع عنك ثمن القراءة والتثقيف، اجتهد الدكتور حيدر لتوصيل الكتاب إلى الناس، ولكن بسبب ضيق يده، وعوز الجمهور انتهى أمر مكتبته إلى التواري عن الأعين في مستودعٍ أرهقه الإحباط، فجسَّد حالة أبي حيان التوحيدي الذي أحرق في ساعة كآبة كل ما خطت يمينه سخطاً على إهمال نخبة الساسة والدهماء، ولم ينجُ من الحريق إلا الإمتاع والمؤانسة والذخائر والبصائر وقليلٌ من محزماتٍ كانت في أيدي آخرين، وبقية انتاجه الفكري ذهب مبغياً عليه في لحظة إحباطٍ سوداوية، وأظن أن هذا هو الآن حال معظم الذين يعتنون بالكتاب من أهل السودان، إن بقي هناك من يهتم بالكتاب وغيره من ضروب الفنون والإبداع، هذا إذا علمنا أن شرط نهوض الأمم منوطٌ بإدراك العلاقات البعيدة بين الأشياء، ولا إدراك للعلاقات في مجالات الاقتصاد والسياسة وشتى ضروب الحياة إلا بالتنوير الذي أداته الكتاب وتبادل الأفكار، وما من طريق سالكة للخروج من ورطة التخلف إلا بتنمية الموارد البشرية، ولنا في تجارب ماليزيا والبرازيل أسوة حسنة، فبدلاً من هذه الليالي الساهرات، كان أجدر بنا أن نحفز شبابنا إلى الإبداع اليدوي المنتج على نحو ما فعلت الصين التي غمرت العالم بمتنوعاتٍ من البضائع، تنبي عن جهودٍ خارقة من القيادة السياسية والصفوة المخططة، أما التراث الشعبي من الغناء والفنون فإن حفظه لا يحتاج إلى كل هذه الجهود المزعومة التي يتنطع بها بعضٌ منا، فقد ظلت ثقافتنا الشفاهية تحفظ هذا التراث بلا دراسات ولا تخطيط حال كونه جزء من وجدان الجميع ، وقد غيض الله لنا في زماننا هذا وسائل حفظ شبه مجانية ،انداح إليها تراثنا بلا جهود رسمية ،ويقف شاهداً على ذلك الكم المنشور من الأغاني والمدائح والتراثيات في موقع اليوتيوب، لذلك فإنه ينبغي علينا توفير طاقات الشباب لما هو أهم،وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ،ويقوم به أمر معاشهم ومعادهم بدلاً من التورط في سهراتٍ تترى، قالت لنا الإنقاذ في مطلع انقلابها بأنها جاءت للحد منها في ظل مشروعها الحضاري الذي قصد إلى تأطير شعب السودان وإعادة صياغته بما يخدم أهداف المشروع الإسلامي في السودان، وها نحن نحصد ثمار المشروع سفوراً، وتراقصاً في الليالي الساهرات ، ونجنيها قنوات فضائية تتبارى في تلوين حياتنا الثقافية بألوانٍ طالما انتقدها الإسلاميون في يومٍ من الأيام وزايدوا على مقارفيها ،حتى قال قائلهم - إمعاناً في المزايدة - : ( إن الكرام على الجياد مبيتهم ..فدع الرماح لأهلها وتعطرِ) ،فهل نحن يا ترى شعبٌ مثقوب الذاكرة؟ والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

احتربت حتى سالت دماؤها .. فلما تذكرت القربى فاضت دموعها


الصادق المهدي ــ اختلفنا معه أو اتفقنا ــ فهو رجل اجتمعت فيه سماحة الطباع، وزينته فضيلة الاعتدال، وتمايز عن غيره بطول النفس، والترفع عن الضغائن والإحن، والنأي بالنفس عن الأحقاد والثأر والانتقام، وكأني به قد ترسم في طريق حياته قول القائل «وسيد القوم لا يحمل الحقدا»، إلى جانب ذلك فإن الرجل قد خبر الحياة فعاقر حلوها ومرها، واتقدت بذلك فكرته ونضجت تجربته، ولهذه الأسباب مجتمعة ظل تعاطيه مع السياسة والشأن العام يحمل في طياته قدراً من الأنأة وضبط النفس، وهذا للأسف ما جعل منه موضع سخرية وتندر من الشانئين، وموضع تَبَرُمٍ وقلق من الناقدين المشفقين، فبعضٌ منا، بسبب موجدته من الإنقاذ لم ير فيه غير أنه من القيادات التي قلَّت حركتها وضعفت حيلتها، وظلت طوال تاريخها السياسي تتذبذب في المواقف، وبعضٌ منا، تمظهر بالموضوعية، حين قال: إن خبرة الشيوخ دوماً تقتل الثورة، حال كونهم يفتقرون لحماس الشباب، وتنقصهم فضيلة التضحية والمغامرة لأجل الوطن، حتى أذكر أن أحدهم استعار بصدد نقاشٍ محتدم عن مهادنة نظام الإنقاذ، على أيام جيبوتي الموءودة، استعار جدلاً أجراه الدكتور طه حسين على لسان طالب يحاور شيخه على طريقة أفلاطون مع تلاميذه في الجمهورية، «إذ قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : ألم تر أن فلاناً ولد حراً، وشبَّ حراً، وشاخ حراً، فلما دنا من الهرم آثر الرق في ما بقي من الأيام على الحرية التي صحبها أكثر العمر !، قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السنين فلم يستطع أن يتحمل الشيخوخة والحرية معاً، وأنت تعلم أن الحرية تُحَمِّل الأحرار أعباءً ثقالاً»، انتهى كلام الشيخ والطالب.
في الأيام الماضيات طالعتنا صحافتنا السودانية، بأعمدة ومقالاتٍ تترى تندراً، وتفيض سخريةً من موقف حزب الأمة الذي جنح فيه للتفاوض مع أهل الحكم في السودان، وكثيرون هم الذين رأوا في هذا التفاهم أنه لا يعدو أن يكون تنفيساً لبركان الثورة ومرجل الغليان، وآخرون جنحوا إلى القول بأن السيد الصادق ومن معه بموقفهم هذا جربوا المجرب، وسيعضون في ضحى الغد أُصبع الندم، فأمر الدعوة إلى التفاوض في نظر هؤلاء هو مجرد تكتيك من المؤتمر الوطني لفك طوق العزلة المضروب عليه من قوى المعارضة، وبعضٌ آخر ذهبت به الظنون إلى أن السيد المهدي وجد ضالته في هذه الدعوة إلى «التخارج» من ورطة العهد الذي قطعه على نفسه واستعد لتنفيذه في يوم مصرع غردون الدخيل، وهكذا ذهبت اتجاهات الرأي في أغلبها تَحْمِل على الرجل في غير هوادة، مع أن في الأمر فسحة لو نظر الناس إلى هذا الموقف بعين الموضوعية التي تضع مصلحة الوطن فوق الإحن والضغائن والصراع، فقل لي بالله عليك ماذا كنت ستقول عمن يطرح مبادئ وشروطاً لخصمه، ثم يرفض مجرد الحوار عليها أو على تنفيذها إن تمت دعوته لذلك؟ ولهذا فإنني بوصفي متابعاً للشأن العام، أجد للسيد الصادق ولحزب الأمة العذر في ما أقدم عليه، بل كنت سأكون من اللائمين إن فعل غير ذلك، لأن تخاذله عن مثل هذه الدعوة يصوره، ويصور المعارضة كلها بأنهم طلاب سلطة، لا طلاب قضايا، وأصحاب مصالح خاصة، لا مصلحة وطن ومواطن، ثم بعد ذلك ما الذي يضير في إجابة هذه الدعوة، فقد ظلت الإنقاذ تحكم البلاد واحداً وعشرين عاماً حسوماً، إلى أن ضاعت وحدتها بذهاب الجنوب، ومع ذلك ما حرك الشانئون قشة، ولا اتخذوا موقفاً مؤثراً إلا لجاجة القول التي لا تنتج طحيناً، فلماذا التعجل وقد عودتنا الأيام أنها دوماً تكشف عن الحق ولو بعد حين، وكما يقول السلف رضوان الله عليهم «الحق قديم» وعند السادة الصوفية أنَّ «من لم يأتِ بلطائف الإيمان يساق بسلاسل الامتحان»، فالظروف التي تمر بها البلاد في هذه الأيام من ذهاب الجنوب، وتأزم اقتصاد الدولة، والخوف على تمزق الجبهة الداخلية، وضغوط الواقع المحلي والإقليمي والدولي وغير ذلك، هي ليست لطائف، وإنما قيودٌ وسلاسلٌ من الكثائف التي توجب على المؤتمر الوطني أن يراجع سياساته في إدارة البلاد، شاء ذلك أم أبى، فإن شروط بقائه مرهونة بالوفاء بمتطلبات المراجعة التي ذكرناها، وهذه في نظرنا ظروف موضوعية تصب في خانة تفجر الأوضاع في البلاد إن لم يتلافاها من بيدهم الحل والعقد، وليس في قبول السيد المهدي الحوار أو تأبيه صلةٌ ببروز تلك الظروف إلى حيز الوجود، وبما أن تجنيب البلاد بحور الدماء والتورط في المزيد من التمزق والتفتت هو واجب وطني ينبغي أن يضعه جميع الحادبين على مصلحة الوطن في حدقات العيون، فإن الحوار القومي الشامل يجب أن يكون هدف الجميع، وأول الغيث قطرة، ومن وجهة نظري أن المعارضة إن كانت تريد للبلاد خيراً فعليها دعم مواقف السيد الصادق المهدي في مطالبه التي وضعها في يد السلطة، وتحديد سقف زمني للتفاوض حولها، والسعي لتوسيع الحوار عبر مؤتمر دستوري يلم شمل كل أهل السودان، من رَفَعَ السلاح منهم، ومن آثر العمل السلمي للتغيير، فالبلاد ما عادت تحتمل مزيداً من التعصب للجهويات، بعد موت الأيديولوجيا في أرض السودان، فالثورة الحقيقية أن يتم تغيير كل السياسات التي عقدت مشكلات البلاد، وليست الثورة هي دلق الدماء، وذبح المهج والأرواح كما يحاول البعض تصوير الأمور، فكم من ثورةٍ أحرقت أرتالاً من الضحايا ولم تحصد منها الشعوب إلا مزيداً من الديكتاتورية والشمولية والتسلط، فلنكن جميعنا دعاة تغيير، وطلاب تصحيح بثورة الجهاد المدني المتحضر، لا بالتخريب وسفك الدماء، وليكن شعار العمل المعارض على رأي السيد المهدي قول البحتري: «احتربت حتى سالت دماؤها.. فلما تذكرت القربى فاضت دموعها»، ففي ذلك صمام أمان للحفاظ على وحدة ما تبقى من تراب الوطن المعذب بصنيع فلذات الأكباد من سياسيي الكيد والمناورات، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ماذا بشأن الشرعية الدستورية بعد رحيل الجنوب؟


في كل حقب تاريخ البشرية، ظلّ الناس ينظرون بعين الاحترام إلى أسس شرعية الحكم الذي عاصروه، فكانت في البدء عبادة الملوك التي تماهي فيها الإله مع شخص الملك، ثم تطور الأمر إلى شرعية الحق الإلهي أو التفويض الإلهي في مباشرة السلطة، إلى أن انتهى الأمر بالبشرية إلى شرعية الديمقراطية المنقوصة على الطريقة الإغريقية، ثم جاء الإسلام ونقلنا إلى شرعية الشورى المقيدة بضوابط النص الشرعي ،التي سرعان ما تم الالتفاف عليها بعد حكم الراشدين رضوان الله عليهم، لتحل محلها شرعية الغلبة والتغلب التبريرية، ثم بعد ذلك شهد الغرب في عصر الأنوار نظريات العقد الاجتماعي كأساس لمشروعية الحكم ،وهذه المشروعيات السياسية للحكم اكتنفتها خلال تاريخها الطويل تداخلات وتعرجات كثيرة ،إلى أن نضج الإنسان وبلغ بالعلم والتجريب مبلغاً أسس لفسلفة النظم الديمقراطية الحديثة التي تقوم على حفظ توازنات القوة، والتلاقي عند القواسم المشتركة التي يتقاطع عندها الجميع،وتتجسد هذه القواسم في مبادئ من مثل :أن الإنسان ولد حراً ويجب أن يبقى حراً، وأن الوطن القومي هو أب الجميع، وأن الحكم يجب ألا يكون إلا عن تراضٍ يعبر عنه العقد الاجتماعي الذي يرعى مصالح كل الشعب، وما إلي ذلك من قيم العدالة وصيانة الحقوق ، وأصبح من المتفق عليه بين كل الباحثين في علم القانون وشؤون الحكم أنه إذا غابت هذه الغايات، وتوارت هذه الأهداف، فإنه لن يبقى من فلسفة الديمقراطية إلا الهياكل النخرة، والمؤسسات الزائفة التي لاتخدم سوى قضايا الأتوقراطية وأهداف النخبة الحاكمة.
أصوغ هذه التوطئة وأنا أشفق على أهل الحكم في السودان أن يتهددوا فلسفة ومبادئ الدستور الانتقالي لسنة 2005م،بعد رحيل أهل الجنوب، خاصةً المبادئ التي نصت عليها المادة (4) من الدستور المذكور،وكذلك وثيقة الحقوق التي تضمنها الباب الأول منه في المواد من (27) إلى (48) ،وهذه الوثيقة في اعتقادي هي درة الدستور الانتقالي وتاج رأسه النظري، لكن لمعانها وتجليها لا يكون إلا بإنزال نصوص الدستور إلى الواقع العملي، فإذا كان أغلب المحللون السياسيون ظلوا يعتقدون أن الواقع السياسي جعل من الحركة الشعبية الضامن الأساسي للحفاظ على وثيقة الحقوق السابق ذكرها ، ومع ذلك حصلت فيها تجاوزات كثيرة ، فإن خروج الحركة الشعبية من جوقة السياسة القومية للبلاد ، سيجعل الوثيقة المذكورة، بل نصوص الدستور جميعها في خطر في ظل واقع الأغلبية الميكانيكية لبرلمان ما بعد الاستفتاء، بل يجعلها عرضة لأن تقع بشأنها تجاوزات،أو حتى تعديلات، وهذا الفرض النظري احتمال وقوعه كبير، في غياب توازنات القوة المؤكد حدوثه في الحكومة والبرلمان برحيل الحركة جنوباً بعد الانفصال، وفي ذلك من الآثار السلبية على سير العمل في دولاب الدولة ما لا يخفى ، في ظل عدم وجود معارضة فاعلة داخل البرلمان، ورحم الله شيخنا الدكتور عبد الله العجلان ، فقد كنت كثيراً ما أسمعه يقول : إن أبا داود وابن حزم الأندلسي على الرغم من ظاهريتهما الخشنة إلا أنهما خدما قضية الشريعة والإسلام، فقد كانا عليهما رحمة الله بمثابة الكابح الذي منع عربة أهل الرأي والقياس من الانزلاق والغلو والتطرف في الارتكان للرأي، ومن هنا نقول: إن وجود المعارضة الفاعلة هو في الحقيقة ضرورة شرعية إسلامية قبل أن يكون ضرورة وضعية خلصت إليها البشرية بتجاربها وخبرتها الطويلة ، ودوننا في ذلك القول المأثور (والله لو رأينا فيك إعوجاجاً لقومناك بحد سيوفنا)،وهكذا يكون عمل المعارضة الجيدة ، أن تُقَوِّم ما أعوجَّ والتوى، وأن تُصَوِّب من تجاوز المدى وتورط في الخطأ المؤثر على مصالح العباد.
فإذا أخذنا كل هذا الذي ذكرناه في الحسبان ،فإن تطبيق المادة (226/10) من الدستور - والتي نصت على أنه (إذا جاءت نتيجة الاستفتاء حول تقرير المصير لصالح الانفصال فإن أبواب وفصول ومواد وفقرات وجداول هذا الدستور التي تنص على مؤسسات جنوب السودان وتمثيله وحقوقه والتزاماته تعتبر ملغاة) - يؤدي إلى وضعٍ دستوريٍ شاذ، فيما يتعلق بفاعلية توازنات القوى في البرلمان، فحزب المؤتمر الوطني الحاكم سيكون بوقوع الانفصال صاحب أغلبية في الهيئة التشريعية ليست آلية فحسب ،وإنما (سوبر أغلبية) تمكنه من الوفاء بمتطلبات المادة (224/1) من الدستور التي اشترطت لتعديل الدستور موافقة ثلاثة أرباع جميع الأعضاء لكلا مجلسي الهيئة التشريعية (المجلس الوطني ومجلس الولايات)، ومن ثم تستطيع الهيئة التشريعية - من الناحية النظرية على الأقل - تعديل كافة نصوص الدستور بما في ذلك تغيير المبادئ والتغول على وثيقة حقوق الإنسان (إن أرادت ذلك)، وفي نظري أن مثل هذا الوضع يعتبر شاذاً، ذلك أن توازنات القوى في المجلسين التي على أساسها قامت تلك الأدوات الميكانيكية اللازمة لتعديل الدستور تكون كفتها قد رجحت لمصلحة المؤتمر الوطني من غير أن يحصل على ذلك بتنافس انتخابي، ولا يجوز أن نفترض في هذا الصدد أن المقاعد الشاغرة في الهيئة التشريعية( برحيل الحركة الشعبية) يمكن أن تملأ بنوابٍ جدد وانتخابات جديدة، فتلك فرضية تجافي الواقع ومنطق الأشياء، فالدستور وقانون الانتخابات جعلا لكل ولاية ممثلين اثنين في مجلس الولايات، وبذهاب الجنوب سيذهب عشرون نائباً يمثلون الولايات الجنوبية العشر، فمن أين لنا بولاياتٍ عشرٍ جديدات ننتخب نواباً عنها للتمثيل في مجلس الولايات، وقل مثل ذلك بشأن المجلس الوطني الذي تم تحديد الدوائر الجغرافية لانتخاب عضويته على أساس التناسب السكاني الذي لا شك سنفقد منه ما يقارب الثمانية ملايين بذهاب الجنوب، فضلاً عن أنه لا يصح تضخيم عدد عضوية المجلس الوطني لجمهورية السودان (الشمالية) بعد ذهاب الجنوب بانتخاب نواب جدد، وتحميل الميزانية مزيداً من الانفاق،في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور أصلا، وبفرضية اننا رغبنا في هذا التضخيم فأين هي الدوائر التي يمكن إجراء انتخابات فيها في الشمال لإكمال العدد اللازم لحفظ توزانات الهيئة التشريعية وإعطاء مفهوم الأغلبية النيابية فيها صبغته الشرعية؟ لذلك فإنه على الرغم من أن الدستور الانتقالي وضع تحوطات فرضية في المادة (69) (للدوشة) الدستورية التي قد يخلفها الانفصال، فإن حالة الارتباك الدستورية تبقى برحيل الجنوب قائمة في البلاد ، ذلك أن عمومية نص المادة( 226/1) من الدستور التي أوجبت إلغاء (في حالة الانفصال) كل فصول الدستور والمؤسسات ذات العلاقة بالجنوب، لم تتحسب لا هي ولا بقية نصوص الدستور الأخرى لمعالجة العطب الدستوري الذي سيصيب الهيئة التشريعية برحيل الجنوب، وبما أن النظام الرئاسي يقوم في الأصل على ثلاثة أعمدة ( برلمان/ سلطة تنفيذية/ قضاء مستقل) ولا تتماهي فيه الحكومة مع البرلمان على النحو الذي عهدناه في النظام البرلماني، فإن الخلل في إحدى العمد المذكورة ? وهو في حالتنا هذه الهيئة التشريعية- حتماً سيؤثر على بقية المنظومة، ويفتح الباب أمام جدل دستوري قد تعجز حتى المحكمة الدستورية بأدواتها المتواضعة عن حسمه بصورة تنال احترام وتقدير الجميع،هذا إذا علمنا أن المحكمة الدستورية نفسها ستصاب بشللٍ تام حال كون أن نص المادة (226/10) من الدستور يلغي عضوية الجنوبيين فيها ضرورةً ويلزمهم بالرحيل جنوباً، ولا سبيل لإصلاح هذا الخلل والنقص في عضوية المحكمة الدستورية في ظل الوضع الدستوري المترتب عن ما بعد الانفصال ،ذلك أن المادة 121 من الدستور نصت في فقرتها الأولى على أن تعيين قضاة المحكمة الدستورية يتم بناءً على توصية من المفوضية القومية للخدمات القضائية بموافقة ثلثي جميع الممثلين لمجلس الولايات ،ونصت في فقرتها الثانية على أن يمثل الجنوب تمثيلاً كافياً في المحكمة الدستورية، وجاءت المادة (4) من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م مؤكدةً لذلك فنصت في فقرتها (أ)على أن : تتكون المحكمة الدستورية من تسعة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية بناءً على توصية المفوضية القومية للخدمة القضائية وموافقة ثلثي جميع الممثلين في مجلس الولايات،فإذا علمنا أن المفوضية القومية نفسها ستتأثر سلبياً برحيل أهل الجنوب ، وإذا علمنا أن عبارة (ثلثي جميع الممثلين في مجلس الولايات) ذهبت نية المشرع فيها إلى أنها تعني ولايات السودان الموحد وعددها خمسة وعشرون ولاية، فإننا نكون أمام استحالة قانونية ودستورية فيما يتعلق باستكمال ما نقص من عضوية المحكمة الدستورية التي ينبغي أن ترعى الدستور وتقوم على أمر حفظه وصيانته. ولا يغير من حال هذا الوضع الشاذ ،أن النظام الرئاسي يخول رئيس الجمهورية الحق في تعديل وزارته وتشكيلها على النحو الذي يراه مناسباً كما يحاول البعض أن يهوِّن من الأمور، وخلاصة الموضوع أننا سنكون أمام علاقة جدلية بين تعديل القوانين اللازمة لإصلاح أو إكمال الأجهزة الدستورية للدولة من هيئات تشريعية ومفوضيات ومحاكم، وبين الآلية التي تعدل تلك القوانين وتجيزها (فأيهما الأول البيضة أم الدجاجة)،وسنكون أمام تناقض غريب في نوعه ، فتعديل القوانين يحتاج إلى برلمان يفترض أن الآلية الميكانيكية فيه توفرت بعد منافسة انتخابية حرة،وبرحيل أهل الجنوب فإن مثل هذه الآلية تنعدم تماماً حال كون من يتبقى من نواب الشمال يمثلون جزءًاً من مؤسسة البرلمان المنتخب وليست كل البرلمان فإذا ذهب بعضه فإنه بذلك يفقد وحدته التنافسية التي أعطته الشرعية في السابق،وفي ذات الوقت فإن إصلاح هذه الآلية وتوفيرها يحتاج هو الآخر إلى تعديل القوانين نفسها، ومعضلة هذه العلاقة الجدلية لن تحل في نظري إلا بتسوية سياسية تجنب البلاد مزيداً من التمزق والاختلاف، فإذا أبينا على أنفسنا ذلك، فلا بديل أمامنا سوى الإقصاء والرجوع بالبلاد القهقرى إلى المرسوم الدستوري (رقم واحد)، ولا أعتقد أن سياسياً عاقلاً عجمت عوده الأيام ، وصقلته التجارب وامتحنته صروف الظروف المحلية والإقليمية والدولية ، يمكن أن يخاطر بالإلقاء بنفسه في هذه الهلكة، ومن ثم فإن المؤتمر القومي الدستوري الجامع يبقى في نظري هو الطريق الآمن لبناء النظام الدستوري للبلاد وتجنيبها خطر الانزلاق في مزيدٍ من المآسي والأحزان، خاصةً وأن الحالة الاقتصادية لا تتحمل عراك ثيران جديد، في ظل الأوضاع المعيشية السيئة التي يكابد عنتها ومشاقها المواطن الغلبان، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

آخر العلاج الكي - مكرهٌ أخاك لا بطل..

صفعتنا القنوات الفضائية في هذه الأيام بأحاديث تجافي الواقع، وتلتف على الحقائق ، وفي غير ما استحياء تجرؤ على تزييف تاريخ لا زال شهوده في ريعان الشباب، والجامع المشترك بين ما (فلقتنا) به أحاديث الأثير هذه أنها كلها تسعى جاهدة لإثبات فضيلة الشجاعة للحزب الحاكم الذي أوصلنا إلى شاطئ الأحزان بتمزيق وحدة البلاد على هذا النحو الذي نراه الآن، وهو مع ذلك في نظر البعض منا قد بزَّ إمام العادلين أبا تراب (كرم الله وجهه) في فضيلة الشجاعة والعدل والصدع بالحق، وما أدخر لبلوغ هذه الغايات وسعاً في الاعتراف بحقوق الآخر، حتى ولو كان هذا الاعتراف هو تقرير المصير.
إننا نتفق مع من قال: إن سؤال الجنوب قد ظلَّ معلقاً بلا إجابة منذ الاستقلال، وأن فعاليات سياسية كثيرة تهربت منه، إلى درجة أنها رمت من حاول الإجابة عليه بالخيانة وكسر الصفوف، ويقف شاهداً على صحة هذا القول ما تعرض له العميد يوسف بدري، وستانسلاوس عبد الله بياسما،ومحمود محمد طه مع مطلع الاستقلال من تخوين، حتى بلغ الأمر أن نسبت آراؤهم حول قضية الجنوب إلى الإمبريالية، وقيل عنها عهدذاك: إنها دسٌ من عمل المستعمرين، وهؤلاء تحدثوا حين كان للحديث ثمن، وصدعوا بآرائهم الغريبة وهم عُزَّل من السلاح، إلا سلاح المبادئ، وكانوا غرباء في قومهم بهذا الصنيع كغربة صالح في ثمود، فقدا اجتمعت كلمتهم جميعاً على الفدرالية التي كانت مطلب أهل الجنوب ،وتواصوا كلهم على مقولة ( إن كنتم تريدون للسودان فلاحاً فخذوا الذي لكم وأعطوا الذي عليكم)، ولم يناوروا أو يستدبروا أهلهم بليل - على رأي الدكتور منصور خالد - ،في وقتٍ كان للحديث بهذا «التابو» أثماناً غالية، أدناها تهمة مواطأة الأجنبي.
والحقيقة التي لا معدى عنها لأي باحث منصف وموضوعي، أن مشكلة الجنوب تسببت فيها عوامل متداخلة ومتشابكة، بعضها أجنبي، وكثيرٌ منها محلي، فالمستعمر فعلاً همَّش الجنوب، ولم يهتم به، ولم يأبه للارتقاء بإنسانه، وكان لسياسة قانون المناطق المقفولة تأثيراً سالباً على وضعية العلاقة بين الشمال والجنوب، ووقف الاندياح والتمازج والانصهار الطبيعي، الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى تبلور الهوية السودانية، في صورةٍ تعكس حقيقتها وطبيعتها بلا تعنت ولا تخاشن، ثم بعد ذلك جاءت سياسات الحكومات الوطنية، ديمقراطية كانت، أو شمولية، لتحاول السباحة عكس سير التاريخ، وضد تيار حلول التراضي، ففشلت جميعها في حل قضية الجنوب، بإستثناء الحل الجزئي الذي انتجته (مايو) باستلافها لمقررات المائدة المستديرة، فأوجدت لنا استقراراً نسبياً ما كان له أن يدوم في ظل هيمنة الحزب الواحد، أو قل في ظل الديكاتورية، مختزلةً في شخص الرئيس نميري عليه الرحمة، ذلك أن منطق الأشياء يقول: بأن من لا يتنفس الحرية لا يمكن أن يوفرها لغيره ليبلغ بها غاياته وطموحاته في حكم نفسه وإقليمه، وهكذا تداعت بنا أحاديث خُلف الوعود،ونقض العهود منذ الاستقلال، مروراً بأديس أبابا وكوكادام، إلى أن بلغت بنا في 1988 اتفاقية السلام السودانية (الميرغني/قرنق) التي اتخذ رئيس الوزارء ( الصادق المهدي ) منها في البدء موقفاً سلبياً ، لكنه قبل بها بعد أن تم امتحانها عبر القنوات الديمقراطية الحرة في كل الأحزاب السياسية السودانية، وصادق عليها البرلمان (الجمعية التأسيسية) ،وأجمعت عليها كل القوى السياسية حتى تلك التي لا نواب لها في البرلمان،بإستثناء الجبهة الإسلامية ، فقد غردت وحدها خارج سرب السلام، وبررت ذلك بأن الاتفاقية هي تنفيذ لمؤامرة القائد العام ضدها، وشاهدنا وشاهد الشعب السوداني (ثورة المصاحف) التي خرجت لوقف اتفاقية السلام السودانية التي لم يرد فيها ذكرٌ لتقرير المصير،وحين رأت الجبهة الإسلامية أن المؤتمر القومي الدستوري، الذي وضع من بين بنود (اتفاقية السلام السودانية )، قد أصبح قاب قوسين من الانعقاد ( في سبتمبر من العام 1989) ، استنفرت عضويتها في الجيش السوداني لقطع الطريق على هذا المؤتمر، فكان انقلابها في يونيو 1989، وجاء في بيان الانقلاب (واليوم يخاطبكم أبناؤكم في القوات المسلحة،وهم الذين أدوا قسم الجندية الشريفة أن لا يفرطوا في شبرٍ من أرض الوطن ،وأن يصونوا عزته وكرامته ،وأن يحافظوا على البلاد، سكانها، واستقلالها المجيد) ، ومن بعد التمكن من رقبة السلطة شهدنا كيف بدَّل الانقلاب وغيّر من طبيعة الصراع بين الجنوب والشمال، وكيف أنه التف على المطالب السياسية للحركة الشعبية ليحيل النزاع إلى تماهيات لا تعبر عن طبيعته ولا عن واقعه، وانتهى بنا الأمر إلى حرب جهادية دينية سقط بسببها أرتال من الضحايا الذين نحسبهم عند الله من الصديقين والشهداء ( ولكل إمرءٍ ما نوى، أو كما قال نبينا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم )،هذا المنهج الذي أحال الحرب إلى حرب دينية نتج عنه استقطاب أفرز لنا في عام 1990م تياراً انفصالياً في الحركة الشعبية ( مجموعة الناصر) كانت له تأثيراته السالبة على التيار الوحدوي ، ولتلافي هذه التأثيرات السالبة بادر الدكتور جون قرنق نفسه في عام 1992م إلى تبني خيار الانفصال ووضعه خياراً موازياً أو رديفاً لخيار الوحدة، ومن باب التكتيكات السياسية واتباعاً لسياسة (فرق تسد) أضطرت حكومة الإنقاذ إلى المناورة مع جناح الناصر بتقرير المصير وكان ذلك في فرانكفورت في العام 1992م،وشهد التاريخ من هذه المناورة ولادة اتفاقية الخرطوم للسلام التي لم تجد الحكومة (شجاعةً) لتنفيذ بنودها،فضلاً عن أن الظروف المحلية والدولية ما كانت تسمح بتنفيذها إلى نهاياتها المتفق عليها،وهذا ما كان يعلمه طرفاها المناوران بالسلام حين التوقيع عليها، فانهارت الاتفاقية وشهدنا جميعاً نهايتها، وتفرق الموقعون عليها أيدي سبأ، منهم من عاد إلى الحركة مرةً أخرى ، ومنهم من استهوته السلطة فآثر البقاء والاستمرار مع( الإنقاذ)، ثم بعد ذلك شهدنا تعثرات إيقاد ، فعلى الرغم من أن حكومة الإنقاذ هي التي طلبت تدخل دول إيقاد إلا أنها رمتها بالإنحياز، وظلت ترفض المبادئ المنبثقة عنها، إلى أن قبلت بها تحت ضغط المجتمع الدولي في 1997م،ثم بعد ذلك تداعت بنا الأحداث فأوصلتنا إلى إطار ميشاكوس، الذي أفضى بنا إلى اتفاقية نيفاشا، التي يعلم القاصي والداني أنها لم تكن صناعة سودانية، ويعلم الأمي قبل المتعلم ،أن الحكومة وقعَّت عليها مكرهةً بعد أن ضغط عليها المجتمع الدولي وغلبت على أمرها في حرب الاستنزاف المملة ، وكلنا نعلم حقيقة أن الحكومة لم تتسلم مدينة ( الكرمك) من الحركة الشعبية إلا بموجب اتفاقية نيفاشا، فهل يا ترى مع وجود هذه الوقائع التاريخية -التي كما ذكرنا أن شهودها لا زالوا في ريعان الشباب- هل يصح مع ذلك القول بأن حكومة المؤتمر الوطني كانت شجاعة في مواجهة تقرير المصير؟ وهل يجوز القول بأنها أجابت - بعد مذاكرة دروسها - على سؤال أزمة الجنوب وتقرير المصير؟وإذا جاءت الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب، ألا تنفتح أمام عقولنا أسئلة أخرى، من مثل ، لماذا إذن قاتلنا أهل الجنوب منذ العام 1989م إلى العام 2005م ،أَوَ لمَ تكن الشجاعة توجب منحهم حق تقرير مصيرهم فور الانقلاب وتجنيبنا وتجنيبهم شرور الاقتتال، أم أن حالنا في تلك الأيام الخوالي - كما تقول العرب- كانت كحال نعامةٍ ربداء تجفل من صفير الصافر؟
الحق ، الحق ، أن الرجل الذي يُحمل على مراعفه لمقارفة سلوكٍ ما ،أو عملٍ ما، لا يمكن أن يوصف (بالشجاع)، ولا يجوز توشيحه بنياشين البطولة،فإذا كانت الشجاعة حاضرة، كما يزعم البعض منا ويدعي، فلماذا كان التنصل عن اتفاقية الخرطوم للسلام ( جناح الناصر)، والتنكر لكل ما جاء فيها، ولو كانت الشجاعة حاضرةً كما يقولون فلماذا (الفرجة )الآن على قضية دارفور ،وها نحن نرى نارها تستعر ،وخيوطها تتعقد مع إطلالة كل يوم جديد،وإذا كانت الشجاعة حاضرةً ،كما نفاخر ،فلماذا هذا الموقف من مسألة الحكومة القومية والدعوة إلى مؤتمر قومي دستوري يأمل الجميع أن يناقش فيه كل أدواء سودان الشمال ليتواضع لها فيه على حلول؟
إن الشجاعة المحمودة أحبتي توجب أول ما توجب الزهد في السلطة لأجل كفكفة دموع الوطن ، وتوجب أول ما توجب بسط الحرية والديمقراطية للجميع تأسياً بقول عمر رضي الله عنه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، وتوجب أول ما توجب أن تكون الغيرة للتراب ووحدته، وللوطن ورفعته ،لا للمصالح والأهواء، ولن ينقطع ذلك ويستأصل من بلادنا إلا بإقامة دولة المواطنة والمؤسسات والرعاية، التي يجد فيها المواطن تطلعاته ويستشعر الانتماء إليها لا النفور منها على النحو الذي جعل أهل الجنوب ينفرون، وهذا أبداً لا يكون إلا بقرارات الشجعان الذين يواجهون النفس بالنقد قبل مواجهة الآخر، ويلجمون هواها قبل أن يلجمها هادم اللذات ، وطالما أن النفس البشرية مجبولة فطرة ً على الهوى وعلى التورط في الخطأ فإنه لا صلاح إلا بالتواضع على المؤسسات التي تجعل توازنات القوى حاضرة بيننا ، لتحاسب وتلجم من يفوت الحدود أو يجاوز المدى ، وتجارب البشرية جميعها تشهد بأنه لا سبيل لبلوغ ذلك إلا بمزيدٍ من الحرية والديمقراطية وبناء المؤسسات الكفيلة بحفظ توازنات القوى بين كيانات المجتمع.
الحقيقة أن الذي أطلق وصف الشجاعة على من (أُكرِهُوا) على منح تقرير المصير، هو باقان أموم، وهو في وجهة نظري لم يكن صادقاً فيما أطلقه من وصفٍ لحال المؤتمر، وإنما كان وصفه هذا من باب الذم المغلف بالمدح لأغراض سياسية، وتكتيكاتٍ أراد أن يصل بها إلى مبتغاه في الانفصال، ولكن بعضاً من قياداتنا في المؤتمر الوطني وجدت من ذلك تبريراً تلطف به من الإنقسام النفسي الذي أصابها،ليصكوا لنا بذلك مصطلحاً سياسياً جديداً اسمه ( آخر العلاج الكي)، بدأت النخبة الحاكمة تتداوله لتداري به على الفشل الذي تورطت فيه، فبالله عليك ماذا تقول فيمن يصنع أدواء نفسه بنفسه، ثم يكويها بالنار بحثاً عن العلاج؟، ولو كان الذين يقارفون مثل هذا الفعل شجعاناً كما يقولون ، أما يصح لنا أن نسألهم .. ما دمتم تؤمنون بحق الشعوب في تقرير مصيرها ، وما دامت الشجاعة هي ديدنكم في تعاور السياسة، فلماذا تلكأتم في قانون الاستفتاء ثلاث سنوات بكاملها ، ولماذا تأخرتم بتكوين مفوضية الاستفتاء عامين كاملين عن الأجل المضروب اتفاقاً ودستوراً لتكوينها؟ وهل يا ترى إذا طلب الدارفوريون حق تقرير المصير ستبادرون إلى قبول طلبهم إكمالاً لخلة الشجاعة التي انفردتم بها من بين كل القوى السياسية السودانية؟.

طبائع الاستبداد ومصرع البلاد


في كتابه «طبائع الاستبداد» شخص الكواكبي عليه رحمة الله داء الاستبداد السياسي ووصف لنا أقبح أنواعه، استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل، ولفت نظرنا إلى أن المستبد فردٌ عاجز لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، أو كما قال، ونبهنا إلى أن الاستبداد أصلٌ لكل فساد، وأن دواؤه لا يكون إلا بالشورى الدستورية، ولم يقف بنا عليه رحمة الله فقط في القمة، بل تدرج منحدراً بنا إلى أصول الاستبداد في أدنى مراتبه، فقال لنا «الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرا ، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنفٍ إلا من أسفل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، وإنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍ كانت، ولو بشر أم خنازير، آباؤهم أم أعداؤهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيدٍ من الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً»، أو كما قال، فهذه على رأي الكواكبي يرحمه الله بعضٌ من صفات المستبد والدولة المستبدة.
وكم كنا نأمل أن يأتي استبداد قيادتنا السياسية شمالاً وجنوباً على نحو الاستبداد الإيجابي الذي عناه أمير العاشقين عمر ابن أبي ربيعة حين قال:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ٭٭ وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرةً واحدةً ٭٭ إنما العاجز من لا يستبد
أي من لا يحزم أمره وينفذ وعده بلا تردد، أو أن يكون على الأقل من جنس الاستبداد العادل أو «المستبد العادل» الذي عناه الإمام محمد عبده في تخريجاته ليوتوبيا أفلاطون والفارابي ومدنهما الفاضلة وتطلعهما إلى أن يكون الحاكم فيلسوفاً عادلاً مطلق التصرف، لكنه يعرف أسرار الحكمة ويجيد وزن الأمور ووضعها في نصابها، كنا نمني النفس بذلك، مع أن الحقيقة التي لا معدى عنها، أنه لا حكمة مع استبداد، ولا عدل مع طغيان، مهما تعاظمت بنا الأحلام واستبدت بنا الأماني العِذاب.
إن بلاد السودان وأهل السودان حصدوا ثمرة الاستبداد والانفراد بالرأي والسلطة شمالاً وجنوباً، حصدوا ثمرة ذلك حصرماً لم يقووا على ازدراده، وتعبوا وتعبت عيرهم حتى أنها ما عادت تقوى على تحمل مزيدٍ من العبث بإرادتهم، فها هي الحركة الشعبية ما عادت تحفل لخيار الناخب الجنوبي، ولا تقيم وزناً للعهد الذي قطعته على نفسها بالتزام الحياد في ما يخص قضية الوحدة والانفصال، فقد طالعتنا صحيفة «الصحافة» بتصرحيات السيدة آن إيتو نائبة أمين عام الحركة الشعبية ودعمها علناً للانفصال، وتبريرها لذلك بقولها «لأنه لم يتم العمل على جعل خيار وحدة البلاد جذاباً فإننا ندعم خيار الشعب، لأننا نتابع إرادة الشعب». واردفت القول: «إن كانت لديكم آذان تصغى فإنكم تعرفون أن أكثر من 90% من الأهالي أعلنوا خيارهم، وأن الوحدة ليست قابلة للتحقيق، خصوصاً مع إدارك الحركة الشعبية أنه لم يتم العمل على جعلها جذابة من قبل الحكومة السودانية». وتناست السيدة إيتو بذلك، أنها في نشوة الانفراد بالرأي ومقارفة الاستبداد الذي تدير نشوته الروؤس، تناست أنها بذلك قد نقضت عهداً وقعته يداها، التزمت فيه بألا تدعو بوصفها الرسمي لا للوحدة ولا للانفصال، بل يقع على عاتقها ــ وفق نيفاشا ــ أن تعمل من موقعها الرسمي على توفير كل ما يجعل الوحدة جاذبة، ولتعلم السيدة إيتو أنه إن كان الجنوبيون في الماضي قد شكوا كثيراً من نقض العهود، فها هي تقارف ذات الفعل المسترذل، وفي عقيدتي أنه ما حفزها إلى هذه الدعوة إلا انفراد تنظيمها بأمر الجنوب عسفاً واستبداداً، فالحاكم المطلق عادةً ما يورد أهله سبيل التهلكة عندما تدير رأسه نشوة التسلط والاستبداد، فلا يُري الشعب إلا ما يرى، فبتأثير هذه النشوة استبقت السيدة إيتو الاستفتاء وقررت أن إرادة شعب الجنوب مع الانفصال، ونسيت أيضاً في ظل نشوة الاستبداد بالرأي أن تنظيمها صاحب نصيب مقدر في الحكومة التي حملتها مسؤولية الاخفاق في ما يخص جاذبية الوحدة، وهذا أمرٌ كان الأجدر أن تعلن معه فشلها في ما التزمت به من العمل على توفير شرائط الوحدة، ولو كان الأمر أمر ديمقراطية تحترم إرادة أهل الجنوب كما تزعم لبادرت بالاعتذار عن هذا الفشل، مع التعبير عن الأسف عملياً بالاستقالة.
إن دعوة السيدة آن إيتو للانفصال على هذا النحو الذي تنقصه الكياسة، يبرر لطرف الاستبداد الآخر «المؤتمر الوطني» التحلل من نيفاشا وبروتكولاتها التي ما حصدنا منها إلا تعلية شأن أصحاب البنادق الطويلة، الذين تأذت البلاد في عرضها وطولها من انفرادهم بمصير وطنٍ أكرهوه حد الاستغاثة على التشظي والتمزق، وزعموا في غير ما استحياء أنهم يمثلون إرادة أهله الحرة، في تزويرٍ للحقيقة لا ينطلي حتى على عقول الأطفال، فالمؤتمر الوطني في عهده الأول وفي سبيل التمكن والتفرد بأمر البلاد رمى بنا في أتون حربٍ لعينة، وقدم الروح فدىً لحفظ وحدة البلاد وما درى أنه كان مخدوعا، إلى أن تجلى الأمر في ضحى الغد فأحبطنا إحباطاً هزم لدينا الإرادة، وقتل فينا جميعاً دواعي الفعل والإنجاز، حتى أن القيادة التي كنا نؤمل أن تحافظ على تماسكها رأيناها قد رفعت أياديها معلنةً حالة الاستسلام، فكم حزَّ في نفس كل الشعب السوداني أن يقف رئيس الجمهورية مناشداً بالتسليم لما سمَّاه بالأمر الواقع ولسان حاله يقول:
وهيهات أن يأتي من الدهر فائتٌ ٭٭ فدع عنك هذا الأمر فقد قضي الأمر
وإنني والحق أقول لم استطع مثل كثيرين غيري بلع هذه المناشدة التي كان ينبغي لشرط صحتها أن يكون توقيتها يوم الجمعة 30 يونيو من عام الرماد، هذا إن كان لا بد منها لبسط السلام، فكنا على الأقل وفرنا على أنفسنا أرواحاً ووقتاً وأموالاً، لكن عين الخيال عند سياسيينا دوماً بها رمد، ولا يدركون أن النار من خواصها الإحراق إلا إذا وطئتها منهم الأقدام، لذا قاتلنا أخوتنا وهم قاتلونا بلا طائل، وبسبب عمى البصيرة لا ظفرنا بالوحدة ولا حققنا السلام، وما أزمة أبيي وأمر الحدود والأمور العالقات عن ذلك ببعيدة، فجنوبنا جرى ترشيحه في كافة التحليلات الموضوعية الجادة أن يكون بؤرة للتفلت الأمني، ويدلك على ذلك أن حدود مديرياته ذات القبائل المتداخلة لم يجر حتى الآن ترسيمها إدراياً، وإرادة قيادته من الحركة الشعبية لم تتوافق إلا على أمرٍ واحد، هو أمر الانفصال، لكن باقي المشكلات المرشح أن يعاني منها مواطن الجنوب ظلت كلها عالقة، جوعٌ وفقرٌ ومرض وغير ذلك من المصائب، وقل مثل ذلك عن شمالٍ دارفوره ملتهبة، واقتصاده متأزم، وسوقه غلاؤها يطحن الشعب، حتى أنه ما ترك سبيلاً لهم إلى إدراك البلغة أو الظفر بكسرة الخبز المعالج بالبدر والسموم، ومع ذلك نتشاغل عن مثل هذا التأزم بوعودٍ خلَّب وآمانٍ غافلات.
لكنه هكذا يفعل الاستبداد، فهو كما قال عنه الكواكبي يرحمه الله إنه أصلٌ لكل فساد، وهل من فسادٍ أكبر وأعظم من أن تتمزق بلادٌ ورثناها موحدة، وهل من العدل والعقل أن نضارب بالوحدة ومع ذلك لا نظفر بالسلام، إنه فعلاً منطق المغامرين لا منطق الساسة والسياسة التي يفترض فيها وضع الخطط والاستراتيجات، ولكني لا أظن أن من يدمن خداع الجماهير يمكن أن يعبا لذلك، فالحركة الشعبية لعبت بإرادة أهل السودان جميعاً حينما عاهدتهم على أمرٍ جلل، جعل أبناء جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة، بل والمهمشين كافة، يحملون أرواحهم بين أكفهم ويقدمونها قرباناً لوحدة السودان، ومثل هذا العهد أيضاً قطعه المؤتمر الوطني على نفسه تحت شعار دولة الإسلام، وما حصدنا من ذلك إلا الوعود البارقات، ومع ذلك لا يستحي من يسمون «الشريكان» من «الكنكشة» في السلطة إلى آخر رمق، لكنها كما قلت سابقاً، إنها هكذا طبيعة الاستبداد وسجيته، لا تغيره الأزمان، ولا تؤثر فيه الحادثات إلا اقتلاعاً من الجذور، إنه طبعاً «الاستبداد» لا يعرف الحياء من سوء ما انتج من كوارث، وسجيةً لا يجيد سوى التبرير لتصرفاته السياسية في سبيل ديمومة ملكه وسلطانه، حتى ولو كان في ذلك الهلاك والإهلاك، والتمزق والشتات، وقديماً قال لابواسييه مخاطباً جمهور المقهورين من شعب بلاده التي عشعش فيها الاستبداد وأباض وأفرخ على نحو ما نحن فيه الآن، قال لهم: «كل هذا الخراب، وهذا البؤس، وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم، بل يأتيكم على يدو العدو الذي صنعتم أنتم كبره، والذي تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله، ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده، هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا المدى، ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، ولا يملك شيئاً فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم التي لا يحصرها العد، إلا ما اسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم، فأين له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي يصفعكم بها إن لم يستمدها منكم؟، وأنى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ وكيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ وأية قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم»، وهذا للأسف ما كان من أمر أهل السودان شمالاً وجنوباً، كلهم قاتلوا باسم الوحدة ــ سواءً كانت إسلامية أو علمانية ــ وهم لا يدرون أنهم إنما بهذا القتال قد علوا من شأن الاستبداد، وخانوا أنفسهم بتمزيق أرض الأجداد، فهل يا ترى ندرك في الزمن بدل الضائع أن بلوغ السلام والأمن والاستقرار يقتضي كبح جماح الحكم المطلق جنوباً وشمالاً، ويوجب النضال ــ ولو بالثورة والانتفاض ــ من أجل إشراك الجميع في كل ما يخص مصير البلاد؟ أم أن على قلوبنا أقفالها؟
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ولتسقط برلين

تبسيط الأمور، وتعبيط البشر، وتهوين الكوارث، هي في الحقيقة مسائل تحتاجُ إلى مهاراتٍ خارقة، و إبداعٍ بريع، يصنع من الفشل نجاحاً، ومن الإخفاق عبقرية، ومن الفسيخ شربات، ومثل هذه المهارات الخارقة هي في الحقيقة نعمةٌ يُلَطِّف الله بها علينا المصائب، وتُلهمنا السلوى بدلاً عن ركوب الأحزان والسفر برفقةِ اليأس والإحباط، ولكنها من الجانب الآخر تذكرني، بقول الدكتور زكي مبارك بصدد نقده للتصوف «إنه وصفة شعبية لعلاجِ اكتئابٍ اجتماعي»، وما أكثر الوصفات والتعويذات السياسية «الشعبية» التي تزيد الأمر ضِغثاً على إبالة في هذا الزمان الأغبر، وهي في حقيقة أمرها هروبٌ من النفس، وجفول من المسؤولية والمُساءلة، بل تنطوي على قدرٍ كبير من تهوين الآخر وعدم تقديره، فكيف بنا إن كان هذا الآخر شعب أنجب الإمام المهدي و ود تورشين والنجومي، ومن رحمه ولدت ثورة «أربعة وعشرين» بعبد اللطيف وماظِ، وفي كنفه نهض رجال في قامة السادة عبد الرحمن المهدي والأزهري والمحجوب، وكوكبة مؤتمر الخريجين الذين ناضلوا من أجل الاستقلال، ومن أجل بناء السودان الواحد الموحد، شعب فجَّر اكتوبر وهزم الليل في أبريل، ومع ذلك أبى الزمان إلا أن يمتحنه بعادياتٍ تُذيب الحديد، وهل من بلاءٍ أكبر من أن يرى بلاده ه تتمزق شلواً إثر شلو، وتنقص من أطرافها مع إطلالة كل يوم جديد.
شعب هذه هي سجاياه، وهذه هي فطرته، وهذه هي طباعه التي نعرف، ومع ذلك تبلغ الاستهانة بأمره حداً يجعل قيادته تصور له فصل جزءٍ من أرضه على أنه ظفراً وانتصاراً، ويقال له بمنتهى البرود والهدوء «إن القيامة لن تقوم بفصل الجنوب»، فإن كان ذلك كذلك، فما الذي يمنع من أن يقال له يوم غدٍ «إن نهاية العالم لن تكون بقيام دولة دارفور»، أو أن يقال له بعد غدٍ إن انبثاق تقلي والمسبعات وسلطانات العبدلاب ومكوك الجعلين والشوايقة إلى حيز الوجود من جديد، هو رجوع بنا إلى عصر الحضارة والتأصيل، بل ما الذي يمنع أن يقال له إن الوصول بالبلاد إلى واقع ما قبل السلطنة الزرقاء جميعاً هو أمر قد ناضلنا لأجله، وقدمنا في سبيل بلوغه المهج والأوراح، كل هذا جائز في ظل المنطق الذي تدار به البلاد في هذه الأيام.
لكنه وأيم الله، إنه المين في ثوبٍ قشيب، والضحك على عقول البشر على نحوٍ يجعل المضحوك عليه يسخر من الضحَّاك، فقل لي بالله عليك، لماذا أبدت لنا الحركة الإسلامية هؤزأها و سخريتها، يوم أن وقف الدكتور عمر نور الدائم عليه رحمة الله مدافعاً عن مواقف حكومته التي ما بلغت السلطة بالدهاء ولا بالانقلاب، وإنما عبر صندوق انتخابٍ حرٍ شهد له العدو قبل الصديق، لماذا سخرت منه صحافة ذلك الزمان الحر، وقرصته قرصاً موجعاً، حين قال أمام البرلمان، في معرض حديثه عن تمرد الجنوب«إيه يعني سقطت الكرمك، ما برلين برضها سقطت»، هذا إذا علمنا أنه في تلك الأيام النواضر لم تطأ أرض السودان أقدام الأجنبي، ولم تُنجس طهارته بؤر المخابرات وأعمال الجواسيس، لا لشيء إلا لأنه كان محكوماً بإرادة أهله، التي غبطه عليها الأصدقاء، وحسدته بسببها دول عريقة، وأخرى ثرية لكنها غارقة في وحل سلب الإرادة حتى أخمص القدمين، بالأمس سقطت برلين السودان «الكرمك»، لكن اليوم سقط الجنوب كله، بل، إن سارت بنا الأمور على هذا النحو سيسقط السودان جميعاً، ويتداعى بأثره من الوجود، فما لي لا أرى الذين سخروا من سقوط برلين بالأمس، ما لي لا أراهم يحركون اليوم ساكناً، بل ليتهم اكتفوا بالسكوت، بدلاً من ذلك آذوا الشعب بتبريراتٍ لفشلهم وعجزهم أوهي من بيوت العناكب، وأسخف من نكات المتكلفين، ولا اعتقد أنه يجرؤ عليها إلا من منزع منه الحياء، أو ذهبت به «قوة العين مذهباً قصياً يتساوى فيه الشين والزين».
إن سخرية الأقدار جعلت من الذين تنادوا بالأمس لانقاذ البلاد من التمزق والتفتت والتشتت، جعلت من أنفسهم وقوداً لهذا التمزق والتفتت، كيف لا وقد بشرونا بأن السودان ذو البعد الواحد، ببزوغ شمس الانفصال، سيولد من جديد، بعد أن تلاشي ليل الوحدة الدامس التي لم ننال منها إلا التنوع المفضي إلى العنت والمشقة وتفاقم المشكلات، وكأني بالشمال قد أصبح على قلب رجلٍ واحد، لا ذلك الشمال الذي نعرف ولا نجهل.
إن الحقيقة التي لا معدى عنها أن بلاد السودان، بلاد تعدد وتنوع، جنُوبه، مثل شماله، هذا هو واقع، شمال أهله يتراطنون بالمئات من اللهجات، وجنوبه كذلك، أهله عاداتهم شتى، وأعراقهم، وأعرافهم، وطقوسهم، وأسبارهم طابعها التباين، حتى ليعجز عن جمعها وإدراك جذورها العميقة أعظم بحاث في علوم الاجتماع، ويقف مشدوهاً أمامها ذوو البصيرة والنظر، يتأملون فيها قول الحق سبحانه وتعالى،« َولَو شَاءَ َرُبكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمةً وَاحَدةً وَلاَ يَزالُونَ مُخْتَلِفين إلاَ مَنْ رَحِمَ رَبُك وَلِذَلِكَ خَلَقهُم» «هودالأية 118» وقال تعالي أيضاً «وَلَو شَاءَ الله لَجَعَلَكُم أُمةً واحِدةً، وَلَكِن يُضِلَُ مَنْ يَشاءَ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسألُنَّ عَمَا كُنْتُم تَعْمَلٌونْ «النحل الأية93».
بلاد هذا طبعها وتلك فطرتها، اعتقد أنه من العبث السعي إلى تأطيرها وتنميطها واختزالها في بعدٍ واحد، وأي محاولة لذلك هي ضربٌ من المغامرة لا تؤمن عواقبها، خاصةً وأن دافور نارها مشتعلة، وأصحاب المشورة الشعبية في الجبال وفي الإنقسنا وجنوب النيل الأزرق لا تزال آمالهم في الهواء معلقة، ولا ننسى أنهم حديثو عهدٍ بالسلام، وتأليف قلوبهم قد يصبح أمراً دونه خرط القتاد، في ظل الاحباط الذي اكتنف حياتهم، بعد أن تنكر لهم من أولوه الثقة «الحركة» وحسبوها صديقاً يجمعها بهم هَم الوحدة وبناء دولة السودان الحديث، فضلاً عن الواقع الدولي الذي توافق. على الأقل من الناحية النظرية، على احترام التنوع والتعدد والخصوصية الثقافية لكل فرد، ناهيك عن المجموعات والطوائف، ودوننا في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كفل لكل فرد الحق في التمتع بخصوصيته الثقافية والفكرية، وكفل له الحق في حرية الاعتقاد... إلخ الحقوق، فلا أدرى كيف جاز لنا نسيان ذلك وبلادنا تعد من البدريين المصادقين على الإعلان المذكور، إن الحديث العاطفي في هذه المرحلة الحرجة من عمر البلاد هو في الحقيقة زج بها في أتون مزيدٍ من التشقق والتمزق، وأي محاولة اختزال لها في بعدٍ واحد هي في نظري هدم لها على رؤوس الجميع، خاصةً وأن مفهوم القبيلة قد مد رأسه ثانيةً في العقد الأخير، في ظل فشل التنظيمات المدنية الحديثة في القيام بالدور المنوط بها، والمعلوم ضرورةً أنه حين تفشل الدولة في أن تتيح للناس مواعين مدنية تحتويهم، فإن شعور الناس بعدم الأمان والتطامن النفسي يدفع بهم إلى التشرنق والبحث عن السلامة في التكتلات البدائية من أعراق وقبائل وخصوصيات ثقافية وغيرها، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، لا نستطيع إلغاءها بالأماني وإرسال الكلام، لذلك إن كانت الحكومة تريد لشعبها صلاحاً فعليها أن تبسط الديمقراطية والتعددية، وأن تشجع منظمات المجتمع المدني التي تستوعب هذا التنوع والتعدد، فإن أبت ذلك، فإنها تكون على نفسها وعلى غيرها قد جنت براقش، وهذا المهدد ليس خاصاً بالشمال وحده وإنما الجنوب نفسه يدخل في هذه الدائرة الجهنمية، و نحيل في هذا الصدد إلى السيد الصادق المهدي في كتابه المدشن حديثاً بعنوان«ميزان المصير الوطني في السودان»، فقد لفت نظرنا في كتابه المذكور إلى أن الجنوب والشمال معاً فيهما مهددات داخلية، وبؤر توتر تنذر بحدوث إنقساماتٍ قد تؤدي إلى تفتيت دولتي الجنوب والشمال معاً، إن قيض للجنوب الانفصال بدولته المستقلة، وعضَّد حديثه هذا ببحوث ودراسات جادة، مثل دراسة ماريك شوميروس وتيم ألن بالتعاون مع مركز دراسات السلام والتنمية التابع لجامعة جوبا، ودراسة مجموعة الأزمات الدولية، وأبحاث الدكتور جون يونغ، وغيرها من الدراسات التي نوهت إلى المشكلات التي يتوقع أن تواجه دولة الجنوب في حالة الانفصال، وربما تؤدي إلى اشتعال حروب أهلية فيها تقضي على كل آمال الانفصاليون في بناء دولة ناجحة ومستقلة، والذي يخشاه المشفقون على أمر البلاد أن يقول التاريخ غداً عن نيفاشا : «إنها كُتِبَتْ لأجل السلام لكنها أشعلت حروباً» تمنى الشعب العود منها إلى حرب «ما قبل 2005» التي كان خلالها وجود الدولة ملموساً، وسلطان الحكم مبسوطاً، وسلوانا قبل أن نكتوي بنار الفوضى واللادولة، أن الأمل في الله ثم في أولي العقل من الحكومة والمعارضة لا ينقطع بالسعي لإيجاد صيغة توافقية تجنبنا الإنزلاق نحو هاوية «حرب الكل ضد الكل» التي قال بها «هوبز» في فجر الرأسمالية، بصدد تنظيراته عن الإنسان البدائي، وانبثاق فكرة الدولة إلى حيز الوجود، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.