الأربعاء، 1 سبتمبر 2010

عبقرية الفشل!!.

بسم الله الرحمن الرحيم

السودان - عبقرية الفشل.

بقلم : خليفة السمري – المحامي.

تقول العرب "القادح على التصفح خيرٌ من النَّزِق المادح"،ويقول مثلنا الشعبي "اسمع كلام من يبكيك،ولا تسمع كلام من يضحكك ويسليك"،وهذه الحكمة الدارجة هي أس نظرية النقد البَنَّاء التي صاغتها المعارف الحديثة،لكن للأسف فإن مثل هذه الحكم والمضامين تجفل عنها نخب السودان حكومةً ومعارضةً ،بل نحن شعب السودان جميعاً طُبعنا وجُبلنا على أن نتأذى من نقد الآخر لنا، مع أن النقد وسيلة إصلاح وأداة تجويد حتى وإن جاء من الخصم الألد،وفي الأثر "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، ولا تكون معرفة النفس إلا بالوقوف على عيوبها ونقاط ضعفها و قصورها،فالبحث عن الدواء لا يصح أبداً أن يسبق الوقوف على حقيقة الداء،وإلا أنه يكون نوعاً من القفز قبل بلوغ الحواجز.

أقول هذا الحديث وقد ساء البعض منا تقرير مجلة السياسة الخارجية الأمريكية عن السودان،والذي صنفت فيه بلادنا بين الدول الفاشلة وفق المعايير المعتمدة لدى المجلة المذكورة،ولسنا في هذا المقال بصدد تصويب أو تخطئة المجلة المذكورة،ولا بصدد البحث عن نوعية المعايير التي اعتمدتها في تقريرها المزعج،فلا يعنينا أن تكون معاييرها منضبطة أو فضفاضة، وإنما الذي يعنينا في هذا المقام رجع الصدى الذي أحدثه ذلك التقرير،فحتى لو كان الأمر لا يعدو أن يكون "بروبوغاندا" معادية، فإنه كان ينبغي أن تلفتنا تلك الدعاية إلى التأمل في ذاتنا بدلاً عن الهروب وفقدان الثقة والارتكان إلى شماعة الكيد والعداء الأجنبيين،فقد أرهقتنا تلك الشماعة دهراً طويلا ونشرت بيننا حيلة "دفن الرؤوس في الرمال" أمام كل حقيقة ماثلة أو خطبٍ جلل قصرت بنا الحيل عن مواجهته بالحلول الناجحة والعمل الجاد ،لقد كان المؤمل ممن وضعوا أنفسهم موضع القيادة أن يمارسوا نقد الذات ويتأملوا مكامن الضعف في سياساتهم بدلاً من المزايدة والغيرة المتكلفة على أمر البلاد،نعم لقد ساءنا جميعاً أن يقال عن بلادنا "إنها أفشل ثالث دولة في العالم" ولكن السؤال لماذا لم يقال ذلك عن "إيران " وهي العدو الذي بينه وبين أمريكا ما صنع الحداد،وقس على ذلك دولاً كثيرة ناجحة ناصبتها أمريكا العداء إلى حد الاقتتال.وللأسف بدلاً من مواجهة النفس ونقد الذات ذهب البعض منا يتلمس تبريرات واهنة،ويصوغ دفوعاً تنقصها الموضوعية،وتفتقد إلى المصداقية ،لا بل تنم عن ضعف أمرنا وهواننا على أنفسنا وعلى الناس ،فعلى رأي بعض "الناصحين" منا فقد حققنا أهداف الألفية في مجالات الصحة والتعليم ومياه الشرب النقية،وتقدمنا في مجالات الاقتصاد وحقوق الإنسان والحكم الرشيد مقايسة بما كنا عليه حتى كدنا نبلغ الغاية والمقصد،وتلك لعمري أمانٍ حالماتٍ سابحاتٍ في سراب الأمل،اعتدنا التأسي بها عند انكشاف عورتنا،وبتنا بسبب هذا السلوك الموارب لا نجرؤ على قول الحقيقة المرة إلا نادراً،ولا شك أني أجد نفسي متفقاً مع هذه الأماني الحالمات إن كان المقصود بالتنمية شيئاً آخر غير تلك التي تواطأ عليها أهل المعاش في كافة أنحاء البسيطة فإننا بحق وبهذا الفهم فعلاً قطعنا فراسخ مٌقدرة في مجالات تنمية الاستهلاك المفقر للجيوب والفاتح لشهية الفساد والإفساد،وما بذلك أبداً تكون التنمية الصميمة أو يتحقق النجاح، فأنى لنا أن نقارب هوامش التنمية أو نشم شميمها ونحن نكابد العنت والمشقة دون أن نلامس إطارها العام وأس بنائها " الأمن والوحدة والأمن الغذائي"،هذا هو ثالوث التنمية الذي تواطأ عليه العقلاء وعرفوه ،فلا تنمية بلا أمن،ولا نمو في ظل التمزق والتشتت،ولا كرامة ولا سيادة مع الجوع والمثقبة،وقد نزل بذلك قرآناً يتلى ،( الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف) الآية ، فأنَى لنا أن نزعم النجاح وصراعات دارفور قد بلغت شهرتها الآفاق حتى أهتم بها من به حصر، وأنَى لنا أن نفخر ونزهو بالنهوض والبلاد جناحها مهيض،تتداعى وحدتها جنوباً، وتمور في حمم النزاع غرباً ومع ذلك نزعم في غير ما خجلٍ ولا استحياء بأننا حققنا التنمية والنمو ونلنا النجاح والفلاح، فأية تنمية وأية نمو نتحدث عنه ومعاناة البلاد من شح النقد الأجنبي باتت أظهر من علم، فالتنمية أحبابي أبداً لا تكون بالاقتراض الذي يشرط فيه المرابي شروطه وإنما تكون باستغلال الموارد المتاحة،وهذا هو فن الاقتصاد ، أن تستغل ما عندك من إمكانيات بدلاً من الارتماء في أحضان منظمات الإقراض العالمية التي وصلت بنا ديونها ومركبات فوائدها المدى،إلى أن بلغت بنا أربعة ً وثلاثين ملياراً من الدولارات،وعلى رأي نائب رئيس لجنة الشؤون الاقتصادية بالمجلس الوطني أصبح كل مواطن سوداني مديناً بمبلغ سبعمائة وأربعين دولاراً، فهذا المغلوب على أمره الذي لا يملك قوت غده دهاه الزمان بهذا الدين المرهق،ولكن من غرائب النقائض أن بعضنا يقضي بمثل هذا المبلغ ليلةً واحدةً في فندق من فنادق النجوم الزاهرات،ومع ذلك نتنطع بأننا حققنا لأهلنا التنمية والنمو،أهلنا هؤلاء نقول لهم مع صبح كل يوم جديد اصبروا وصابروا واحتسبوا ورابطوا فإن يوم البشارة قريب وأن الذهب الأسود هو فألنا الحسن، فإذا بالذهب الأسود لا يكفينا شره بعد أن قنعنا من أي خير فيه، بل يأبى إلا أن يبقى بيننا،لا ليبرد جوفنا ويشفي غليلنا،ولكن ليهدد وحدة البلاد ، فضعف الطالب والمطلوب.

إننا نتحدث عن التنمية وصادرات البلاد – إذا ما استثنينا النفط الفاجعة – تكاد تقارب أن تسجل صفراً كبيرا،هذا إذا ما صارحنا النفس وواجهنا ذاتنا بحقيقة مدخراتنا من النقد الأجنبي والانفلات الفلكي في أسعار صرف العملات، ومع ذلك يقول لك البعض إننا حققنا أهداف الألفية في التعليم والصحة ،فعن أي تعليم نتحدث ،ومخرجات جامعاتنا لا تصلح لسوق العمل،ولم يخطط أصلاً لربطها ببرامج التنمية والنمو على النحو الذي نهضت به دول من مثل دول جنوب شرق آسيا، التي اتجهت بشبابها نحو التعليم المنتج الذي غرس في النشء حب العمل اليدوي ولم ينفره منه في استعلاءٍ زائف على النحو الذي ورط فيه تعليمنا حملة الإجازات العلمية السودانية التي أصبحت لا تستر عورةً ولا تسد جوعة، ولا تسقي جرعة ماء ،لكنها مع ذلك غرست فينا طموح أن نكون جميعنا ساسةً وبرلمانيين ووزراء، ليفتح تعليمنا بذلك باب أمنياتٍ زائفة وأحلامٍ كاذباتٍ لا يؤهل الواحد منا إليها سوى الغرور الأجوف "وقوة العين " التي لا تعرف الحياء ،هذا هو حال تعليمنا،فكل من تلقاه يقول لك إنه حصل على إجازة التمايز الاجتماعي المغلوط، وأنه تقلد وسام الأفندي الذي مشي على الأرض تكبراً واختال في تمشيه فخوراً، لكنه حين نظر إلى جيبه خالي الوفاض رمقنا جميعاً بازدراء وبادر إلى التمرد وفتح فوهات السلاح على أهله الذين كانوا بأميته آمنين تغشاهم الألفة والرحمة والسكينة،فالتعليم التنموي أحبتي ليس تعليم فك الحروف، وإنما هو التعليم العملي الذي يلامس حياة الناس ويسد جوعتهم ويكسو عريهم ويداوي عللهم ولا يزدري من المعروف شيئاً ،وتحضرني في هذا المقام واقعةٌ لطيفة أوردها الدكتور منصور خالد في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل" تجسد هذا التعليم العملي الذي عنه نتحدث ، ذكر الدكتور منصور أنه أيام أن كان وزيراً في حكومة مايو سافر برفقة وفد من السودانيين إلى بريطانيا ،فاحتفى بهم الرعيل الأخير من الإداريين البريطانيين العاملين في السودان، فبادر أحدهم إلى سؤاله عن حال الشيخ منعم منصور ناظر عموم الحمر، وبعد أن أخبره الدكتور منصور بأن العلوان الجالس إلى جانبه هو ابنه إبراهيم، سأله: لكن لماذا تذكرت من بين كل أهل السودان الناظر منعم منصور، فقال له البريطاني : إن الرجل كان أقرب إلى الأولياء وأخلاق الأنبياء منه إلى البشر العاديين ( A paragon of virtue )،وعند سؤاله له لماذا هو في نظرك كذلك ،قال "الخواجة " إنني جبت السودان صقعًا صقعاً فلم أر من هو أشرس في طباعه واعتداده بنفسه من قبيلة الحمر ،فقد فشلنا في بسط حكم القانون فيها على الرغم من إلمامنا بعلوم الإدارة الحديثة ، وهذا ما وفق فيه الشيخ منعم منصور بيسر أحار عقولنا ، هذا هو التعليم العملي الذي نعني ،لا تعليم السبورة والكتاب،فهذا الأخير لا يفعل شيئاً إذا ما حلق بصاحبه عن واقع الزمان والمكان وأغراه بالترفع عن العمل اليدوي والاحتجاب في مدن الوهم الاستعلائي،هذا الوهم هو نفسه الذي بذر فينا نحن المتعلمين خصال التملق والتزلف إلى الأنظمة الحاكمة حتى وإن كان يمايز بيننا وبين أيديولوجياتها ما يمايز بين الإلحاد والإيمان، لكننا مع ذلك نتماهى معها فأفسدنا بذلك أنفسنا وأفسدناها ،ونظرة واحدة في تاريخ علاقاتنا بأحزابنا وحكوماتنا منذ الاستقلال تكفي لإثبات ذلك، فأي ألفية يا ترى بعد هذه السوءة حققنا بتعليمنا أهدافها، وأي تنمية أو نمو نتحدث عنه ومنظمات الغرب والشرق تتداعى علينا بمواد الغوث والمعونة من كل حدب وصوب،لا لمواجهة كوارث عابرات بل لعلاج مصائب مقيمة،عاشت بيننا منذ استقلالنا فالفتنا وألفناها وورثناها وأورثناها كابراً عن كابر،وجيلاً بعد جيل.

إن من يفشل في المحافظة على وحدة بلاده وبسط الأمن والتوافق السياسي فيها ، هو في الحقيقة فاشل، وإن أبدع حدائق بابل،وشاد ناطحات السحاب، لأنه كالذي يبني على تلال الرمال ، وهذا المعيار من عندي أنا الفقير لله لا من عند مجلة " الفورن بولسي الأمريكية" ، فلا تحدثني عن طرق أو جسورٍ، أو قصور، والناس تموت بالفاقة والمرض والفقر والتنازع المفضي إلى القتال،وعلى المنصف منا أن يأخذ على عاتقه جولة في قرى الشمالية أو ريف الشرق أو قرى قلب الجزيرة ناهيك عن دارفور ومأساتها وصراعاتها فضلاً عن مهددات الوحدة الوطنية التي لاحت نذر شرها في أفق البلاد تبرق للجميع رسائل الإحباط من آثار انفصالٍ متوقع وتمزقٍ وشتات،فالدولة الناجحة يا أحبتي هي تلك التي تبدع الآليات الجيدة والأدوات الصميمة لمواجهة مثل هذه الأدواء والمشاكل،فإن قصرت بنا حيلتنا عن بلوغ ذلك فإننا بالحق فاشلين ولو سكتت عنا أمريكا ومجلاتها،ولو "زمرنا" لأنفسنا ومنيناها زيفاً وإيهاما بتباشير النمو والنجاح والفلاح،لكنها هي الدنيا نصطادها حيناً وفي الختام يصطادنا الصياد،هي الدنيا كدٌ وتعب ،عنتٌ ونصب، فشلٌ ونجاح،وللفشل أيضاً عبقريته على رأي الدكتور غازي العتباني ،فهل يا ترى نحن شعبٌ من العباقرة؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق