الاثنين، 12 يوليو 2010

الإسلام السياسي السوداني بين الإبداع والإخفاق


الإسلام السياسي السوداني بين الإبداع والإخفاق.

بقلم خليفة السمري – المحامي
"1/7"
لم يحدث في التاريخ الإسلامي أن أعلن حاكم دولة مسلمة – خلا أتاتورك – فصل الدين عن السياسة ،فقد ظل مبدأ شمولية الدين للسياسية مقرراً ومتبنى على الصعيد النظري ومنتصراً له على الصعيد الدوغمائي حتى وإن غاب عن الممارسة الفعلية ، وإذا تأملنا التاريخ الفكري الإسلامي وأمعنا النظر في كتب التراث في كافة عصور الدولة الإسلامية فإننا نخرج بنتيجة مؤداها أن الكتابات التنظيرية الفكرية والفقهية في باب الحكم والسياسة تكاد تكون في حكم النادر إذا ما قورنت بالموسوعات الضخام التي دونها فقهاء الإسلام في أبواب العبادات والمعاملات والقضاء ،فقد ظل التنظير السياسي يعاني الشح والنضوب وكان لذلك أثره السلبي على الأمة الإسلامية في ماضيها وحاضرها ، فالمتأمل في الإنتاج الفكري الإسلامي عموماً يلحظ إبداعاً في شتى فنون التأليف خاصة الفقه الإسلامي الذي كان له القدح المعلى والحظ الأوفر من الاهتمام ، فقد أبدع فقهاء الإسلام في أبواب فقه المعاملات والعبادات والأنكحة والقضاء أيما إبداع واهتموا بالنوازل والمستجدات فقعدوا القواعد الفقهية وفرعوا عليها المسائل حتى أنهم تجاوزا بالفروض واقع عصرهم وزمانهم وحسب المرء أن يلقي نظرة عابرة في أي كتابٍ فقهيٍ أو أصوليٍ من كتب المذاهب الإسلامية المعروفة لتنتابه دهشة يعقبها بلا شك كثيرٌ من الإعجاب والافتتان ،فأنت إذا تأملت كتاباً مثل موافقات الإمام الشاطبي - وهو كتاب في علم الأصول - فإنك لا محالة ستعجب لمنهجية المقاصد التي خطها صاحبه فيه وكيف أنه وفق للربط بينها في سماط تقعيدي يدل على عقلية فكرية فذة قلَّ أن يجود الزمان بمثلها ،وقل مثل ذلك عن مستصفى الإمام الغزالي الذي جاءت مقدماته ملخصةً للمنطق اليوناني "منطق أرسطو" بأسلوب ومنهجية قد يعجز عن إبداع مثلها من توافرت لهم أدوات البحث العلمي الحديث ،وقس على ذلك فنون الفقه واللغة والأدب والتاريخ والتراجم ..إلخ.
ومع كل هذا الإبداع في الفنون السابق ذكرها إلا أنك إن أدرت ناظريك تجاه التنظير السياسي في كتب التراث فإنك بلا شك ستصاب بخيبة أمل كتلك التي أصابت الشيخ علي عبد الرازق حين ولج هذه المغارة ينقب فيها عن آثارٍ ظن أنها توارت عن ناظريه بين كثيف الظلام والإعتام ، فمكث أعواماً عديدة ينقب ويسلط عليها الضوء يحفزه إلى ذلك قلق العلماء ويحدوه شوق العارف إلى البحث عن مزيد من المعرفة ، إلا أنه عند ظفره بحقيقة موضوع بحثه خاب أمله وطفق يردد قول المتنبي : طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ هربت منه بآمالي إلى الكذب، قال الشيخ علي عبد الرازق في مقدمة كتابه أصول الحكم " وليت القضاء بمحاكم مصر الشرعية منذ ثلاث مائة وألف هجرية "1915م" فحفزني ذلك إلى البحث عن تاريخ القضاء الشرعي، والقضاء بجميع أنواعه فرعٌ من فروع الحكومة وتاريخه يتصل بتاريخها اتصالاً كبيراً وكذلك القضاء الشرعي ركن من أركان الحكومة فلا بد لمن يدرس تاريخ ذلك القضاء أن يبدأ بدراسة ركنه الأول ،أعني الحكومة في الإسلام ،وأساس كل حكم في الإسلام هو الخلافة والإمامة العظمى – على ما يقولون – فكان لا بد من بحثها ،شرعت في بحث ذلك كله منذ بضع سنين ،ولا أزال بعد عند مراحل البحث الأولى ، ولم أظفر بعد الجهد إلا بهذه الورقات ،أقدمها على استحياء ،إلى من يعنيهم ذلك الموضوع"أ.هـ كلام الشيخ علي عبد الرازق.
والحق يقال إن كتب التراث الإسلامي تعاني شحاً ظاهراً في باب التنظير السياسي ،ونضباً واضحاً لا يخفى على عيان أي باحث فقد ظل باب الحكم أو ما يسميه السلف "السياسة الشرعية" ، ضامراً ومنحصراً في مؤلفات قليلة تكاد تكون متشابهة ومتطابقة ،ولا تعدو أن تكون تقعيداً للأمر الواقع هذا إن لم يكن فيها كثيرٌ من التبرير للحاكم ،ومن أشهر المؤلفات التي كتبت في هذا الباب الأحكام السلطانية للماوردي،والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء والسياسة الشرعية لأحمد بن تيمية الحراني ،هذا إلى جانب بعض مؤلفات يحاول البعض تصنيفها في باب السياسة الشرعية مثل كتاب "الخراج" لأبي يوسف صاحب أبو حنيفة مع أن تصنيفه في فن المال والاقتصاد أجدر،و "سراج الملوك" للطرطوشي " الذي هو إلى الوعظ والإرشاد أقرب، ومما يثير العجب في هذا الباب أن مقدمة ابن خلدون على رغم إبداعها في تحليل التاريخ واستخلاص قوانين طبيعية منه إلا أنها خلت من أي تنظير سياسي سوى باب واحد يتطرق للملك ولمراحل تدهور الدولة وهذا الباب الذي كتبه ابن خلدون في هذا الصدد لا يعدو أن يكون ملاحظات على التاريخ استنبط من خلالها قوانين تاريخية يقول إنها حتمية لا بد أن تمر من خلالها أي دولة أو نظام سياسي من مرحلة ميلاده إلى مرحلة موته وفنائه.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام، هو، ما هي الأسباب التي أدت إلى ضمور الإبداع والابتكار وقلة التأليف عند السلف في باب السياسة الشرعية على أهميته ومساسه المباشر لحياة الناس ومعاشهم، ولماذا لم يظهر بينهم تنظير مثل ذلك الذي ساد عصر التنوير أو عصر الأنوار في أوربا ؟.
الرأي عندي، بما يشبه اليقين ،أن الحجر الفكري الذي مارسه الساسة والسلاطين على العلماء والفقهاء كان له أثره في تقوقع الإبداع والتنظير في الفكر السياسي الإسلامي جميعا، فالملاحظ أن الكتابات التي أنجزت في هذا الباب كانت رتيبة ومتشابهة ،ومضمونها جميعها يتفق على أمرٍ واحد وهو تقعيد الأمر الواقع لغرض تبرير مشروعية السلطان ،وللأسف حتى تهويمات المدن الفاضلة الإسلامية لم تخلو من مثل هذا الأمر ،فأنت إذا نظرت في مدينة الفارابي الفاضلة لا تجدها تخلو من تبجيل للحاكم المطلق السلطات، والذي يجب في نظر الفارابي أن يكون حكيماً ، مع أن الحكمة والدكتاتورية أمران قل أن يجتمعان ،فضلاً عن أن مشروع مدينته الفاضلة لا يعدو أن يكون نقلاً من أفلاطون مع حسن تصرف، وابن رشد على الرغم من أنه لخص كتب أرسطو وهو فيلسوف الإسلام المشائي الأول الذي اتخذه الغرب وسيلة وصل بينه وبين الفلسفة الإغريقية ، مع كل ذلك فإنه لم يبدع في مجال التنظير السياسي ما يمكن أن يرقى إلى المؤمل من طاقة جبارة مثله. "يتبع"

"2/7"
جاء التنظير السياسي في كتب التراث الإسلامي ذابلاً نحيلاً يشكو الجوع والإعياء ،والسبب في ذلك أن الذين نظروا في هذا الباب قد نظروا محفوزين من الساسة والسلاطين ليبرروا لهم سياساتهم، أو ليوجدوا لهم نوعاً من المشروعية يقنع بها العقل "المستقيل" –اذا ما استعرنا اصطلاح الدكتور محمد عابد الجابري عليه رحمة الله - وتلوكها ألسنة الدهماء ويؤمن بها عامة الناس إيماناً على حد تعبير الإمام الغزالي يضاهي إيمان العجائز.والملاحظ أن المشاريع الفكرية والتنظيرية التي تصدر بناءً على طلب السلاطين نادراً ما يحالفها التوفيق خاصة إذا ما كان الغرض منها التبرير للحاكم وخدمة الإيديولوجيا التي يعتنقها، ودوننا في ذلك كتاب النهج الإسلامي لماذا ؟ الذي ما اندفع كاتبه الحقيقي لتحبيره إلا إرضاءً وإشباعا لرغبة الرئيس نميري فاكتنفه بسبب ذلك هزالٌ لا تخطئه عين المبصر، وعن أسباب مثل هذا الضعف الفكري يحكي لنا الكواكبي في ص " 32 " من كتابه "طبائع الاستبداد"- طبعة دار النفائس أنه ( لاحق كلب الصياد يوماً أرنباً فعجز عنه ،ولم يستطع إدراكه ، فسأل الكلب الأرنب ، كيف تسبقني ،وأنأ أقوى منك ؟، فأجابه الأرنب : إني أعدو لحساب نفسي وتعدو لحساب صاحبك)، فالعدو لحساب الغير هذا هو الذي أضعف التنظير السياسي التراثي الإسلامي في باب الحكم والسياسة،وحال بينه وبين الإبداع في بابٍ من أهم الأبواب ، فأصبح بذلك عاجزاً لا يحر لنفسه فكاكاً من فلك الأمراء والسلاطين،وللأسف ظل الأمر على هذا النحو حتى يوم الناس هذا في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية إلا من رحم ربي،ذلك أن أي مفكر أو فقيه إسلامي يحاول تأصيل نظرية سياسية أو اجتماعية يسترشد فيها بقيم الحرية والعدالة والحقوق المتساوية بما يعارض هوى الحاكم فإنه بلا شك يعرض نفسه لمضايقاتٍ قد تصل أحياناً إلى التآمر والقتل طالما أن إبداع ذلك الفقيه أو المفكر يمس مشروعية الحاكم أو ينبه العقول ويوقظها من نومها وثبات استقالتها، إلى أن استقرت في أذهان الناس مقولة أن الخروج على الحاكم ولو كان فاسقاً يعد كبيرة من الكبائر بمبرر أن الخروج عليه فيه إذكاء للفتنة وتأجيج لنارها, هذا إذا علمنا أنه بعد الخلفاء الراشدين الأبكار لم يتسنم في التاريخ الإسلامي كله أي أمير أو سلطان السلطة عبر وسيلة الشورى وإنما كان السبيل إليها دوماً الغلبة والتغلب بالقوة والعصبة والسيف ، ونظرة واحدة في تاريخ الدولة الأموية أو العباسية أو حتى دويلات الأندلس..إلخ تكفي لإثبات هذا الزعم والتأكيد على صحته.
مع كل هذا الحجر الفكري على الفقهاء والعلماء، فإن أهل السياسة لم يتورعوا من استغلال ضعاف النفوس من الفقهاء والعلماء والمفكرين في تبرير كثير من مشاريعهم السياسية ، ولو أننا ذهبنا نتحسس ذلك في كتب التراث لوجدنا منه الكثير، فللأسف كان أهل الملك والسلطان في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي بمثابة الدينمو المحرك لكثيرٍ من الآراء الفقهية والكلامية حتى وإن بدت في ظاهر أمرها لا علاقة لها بالسياسة والسلطان ،فالجبرية على سبيل المثال يصنفها أهل العلم الشرعي في باب علم الكلام "مباحث اللاهوت وأصول الدين " مع أنها في حقيقة أمرها – على رأي كثيرين - لم تكن سوى التفاف سياسي على الدين مرر من خلالها الأمويون خطابهم السياسي وضيقوا باسمها الخناق على معارضيهم وأفحموهم بمنطق القضاء والقدر،ذلك أن عقيدة الجبر بنيت على مبدأ أن الله قضى وقدر كل شيء في أزله وسابق علمه وكتابه،وأنه من بين قضاء الله هذا أنه جعل أمر الخلافة في بني أمية فمن ناكفهم في أمرهم هذا فإنه جاحد ومارق لحال كونه معترض على مشيئة الله التي قضت بأن يكون أمر الخلافة منحصرٌ في أولئك الأئمة المصطفيين،وبذلك يكون الحاكم قد استمد مشروعيته مباشرةً من الله تماماً مثل حكام أوربا في القرون الوسطى الذين أنتج لهم التبريريون مشروعية أسندوها إلى ما عرف في التاريخ الأوربي بنظرية الحق الإلهي.
جدلية الصراع مع هذا التيار السياسي الإسلامي الجبري أنتجت التيار القدري الاعتزالي كرد فعل طبيعي تبنته معارضة بني أمية ممثلة في بني العباس ومن نحو نحوهم ،فكان الاعتزال بذلك هو الآخر شارة دينية تذرت بها قوى سياسية أخرى طامحة إلى الحكم مطيتها وأداتها إلى الخلافة القول بأن أفعال العباد حادثة وهي من خلقهم هم ولا دخل للمشيئة الإلهية بها،ومن هنا جاء القول بالتخيير لضرب ثيوقراطية الدولة الأموية،وما أن استتب الأمر لبني العباس حتى عادوا على عقيدة التخيير ينبذونها حتى أن أبا جعفر المنصور جعل من نفسه ظلاً لله أميناً على خزائنه في الأرض يفتحها لمن يشاء بمشيئة الله ويغلقها على من يشاء بمشيئة الله أيضاً،وعلى هذا النحو ظلت العقيدتان الجبرية والقدرية التخييرية تتعاوران الأمر في دولة بني العباس حسب المصلحة السياسية للحاكم،فقد رأينا كيف أن المأمون رفع من عقيدة الاعتزال ونكل بخصومها وعلى رأسهم أحمد بن حنبل أشد التنكيل وسرعان ما انقلب عليها المتوكل على نحوٍ أدى إلى استقالة العقل الإسلامي إلى يوم الناس هذا. "بتصرف من كتاب العقل السياسي العربي لمحمد عابد الجابري".
أيضاً إذا دلفنا تلقاء الخطاب الشيعي الذي يقول بعصمة الأئمة نجده هو الآخر أوجد من هذه العصمة شارةً دينية أعلن من خلالها مشروعيته وأحقيته بالخلافة، فلا عصمة في نظر هذا الاتجاه السياسي إلا للأئمة المصطفيين من آل البيت ،وعليه فإن خروج الأمر منهم إلى سواهم يدخل في نظر هذا الاتجاه في باب الكبائر ، وقس على ذلك عقائد الخوارج والحشاشين والجهمية والأزارقة ..إلخ قائمة الصراع السياسي المتلفع بلباس الدين.
ولا أدل على تلفع السياسة وأهل السياسة في عالمنا الإسلامي بجلباب الدين من التفسيرات والتأويلات العديدة التي جرت لحديث " الأئمة من قريش" الذي صححه البخاري، فالقرشي من أهل السياسة احتج لمشروعيته في تولي الحكم بحرفية نص هذا الحديث ،ورأى عدم جواز خروج أمر الخلافة من قريش القبيلة المعروفة إلى من عداهم،واحتج بهذه الحرفية النصوصية على غير القرشيين من المسلمين بل رأى في هذا الحديث قيداً على إطلاق حديث "اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبدٌ حبشي"، إذ رأى بعضهم أن هذا الحديث الأخير للحث على وجوب طاعة ولي الأمر والانقياد له لا أكثر من ذلك.
أما غير القرشيين من أهل السياسة فقد أخذوا يتأولون حديث "الأئمة من قريش" بتخريجات لغوية وظفوا فيها التأويل الديني لخدمة أغراضهم وأهدافهم السياسية الزمنية واستغلوا في تأويلهم هذا العلماء حتى ولو كانوا عرباً قحا يتحدورن من قريش نفسها، ولا أدل على ذلك من التخريج الخلدوني الذي ذكره عبد الحميد متولي في كتابه في القانون الدستوري الإسلامي بشأن هذا الحديث، فقد تأول ابن خلدون "حديث الأئمة من قريش" تأولاً لغوياً رأي فيه الكثيرون شيئاً من الشطط حين قال إن التقرش لغةً يعني التأسي بالعصبة والقبيلة ،ومن ثم فإن أمر الخلافة يكون لمن كانت له عصبية غالبة ولو لم يكن قرشياً من حيث الدم والنسب،وبهذا التأويل بنى غير القرشيين لأنفسهم شرعية تمكن الكثيرون منهم من خلالها من الوصول إلى سدة الحكم والبقاء فيه زمناً طويلاً والأمثلة على ذلك في التاريخ الإسلامي كثيرة ومشهورة ،وأشهر من برر شرعيته على هذا النحو آل عثمان من الأتراك.بل يرى كثيرون من هذا المنطلق أن موقف الأزهر من كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق كان مدفوعاً بتطلعات الملك فؤاد للخلافة،وأن الضجة حول الكتاب كانت سياسية أكثر منها دينية كما حاول خصوم الشيخ عبد الرازق تصويرها، فالرأي الراجح لسبب تلك الضجة أنه بعد انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية في العام 1921م وحلول الأتاتوركية محل السلطان عبد الحميد الثاني آخر خلفاء بني عثمان، تطلع كثيرون لشغل هذا المنصب الذي يجمع بين أمري الدين والدنيا وكان من بين هؤلاء المتطلعين الملك فؤاد ملك مصر،الذي حرص على الظفر بهذا المنصب حتى إنه ليقال أنه لهذا الغرض اصطنع لنفسه نسباً من جهة أمه مع أشراف آل البيت ، فلما جاء الشيخ عبد الرازق ببحثه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" الذي حاول فيه نسف أمر الخلافة من أساسه و التأكيد في نتائج بحثه على أن منصب الخلافة ليس منصباً دينياً كما هو أمر بابا الفاتيكان بل هو في نظره منصب زمني يتبدل أمره وتتغاير شروطه وضوابطه بتغير الأزمان وفق مصلحة المسلمين ، وهذا ما أثار عليه حفيظة الملك فؤاد الذي لم يترفع عن الإيعاز لبعض علماء عصره من التصدي لكتاب الإسلام وأصول الحكم ،فصدرت فتاوى كثيرة من بعض علماء الأزهر الشريف في هذا الشأن بعضها بحق وبنهج معرفي وأغلبها بدافع الهوى والخصومة ،وانتهت هذه الضجة الكبرى بمصادرة الكتاب والتوجيه بحرقه ومنع نسخه من التداول بين الناس ، وهذا مثال واضح على الحجر الفكري الذي فرضه أهل السياسة على الفقهاء وعطلوا به نمو الفكر السياسي الإسلامي وتطوره ،وهو أمرٌ كان له أثرٌ سيئ على التجارب المعاصرة التي حاولت إقامة نظم سياسية إسلامية ،بل كان سبباً مباشراً في فشل معظم تلك المحاولات الإسلامية السياسية لبناء دولة إسلامية معاصرة. ”يتبع".
"3/7"
ذهبت فيما سبق إلى القول بأن الهيمنة وشمولية الحكم هي التي منعت الفكر السياسي الإسلامي من أن ينهض ويتطور على نحوٍ طبيعي ،وأردت أن أخلص من ذلك إلى نتيجة مؤداها أن الاستبداد السياسي هو الذي أوجد هذه التقية التي يتعامل بها كثيرٌ من الفقهاء والعلماء وأهل العلم الشرعي مع الملوك والأمراء وأرباب النفوذ والسلطان ، لكن هناك سؤالٌ يفرض نفسه في هذا الموضع ، ومؤدى السؤال، يا ترى ما الذي مكن العالم الأوروبي من إبداع نظريات سياسية ظلت تتطور جيلاً بعد جيل،مع أن هذا العالم الأوربي هو الآخر حكمته أنظمة ملكية مستبدة إلى جانب هيمنة كنسية دينية كانت تعد على الناس أنفاسهم بممارستها لطقوس الاعتراف والغفران التي ذلت لها نفوس المسيحيين في العالم الأوربي وخضعت، خاصةً في القرون الوسطى، والسؤال الذي يفرض نفسه أيضاً في هذا المقام ، لماذا استطاع المفكرون الاجتماعيون في الغرب تجذير نظرياتهم وأفكارهم التنويرية في الواقع الاجتماعي الأوروبي لتصبح أساساً للبناء السياسي للدولة في الوقت الذي فشل فيه علماء العرب والمسلمين؟.
إجابةً على هذا السؤال أرى – وهو رأي قابل للتصحيح والتصويب – أن الفارق بين أمرنا وأمرهم كان كبيرٌ جداً ، فمجتمع القرون الوسطى في الغرب الأوروبي كانت الهيمنة فيه تقوم على تحالف بين الكنيسة وأهل السياسة مع وجود توازن في القوى منع تغول كلا الطرفين على ما هو حق للطرف الآخر،عملاً بنظرية ما لله لله ،وما لقيصر لقيصر، وبين أهل السياسة وأهل الدين هؤلاء انفتح هامش حرية لأهل الفكر ليدلوا بدلوهم ، ويطوروا أفكارهم ، وهذا لا ينفي أن كثيرين من المفكرين الاجتماعيين في عصر الأنوار قد لاقوا عنتاً ومشقة ودفعوا أثماناً غالية لقاء الجهر بأفكارهم الإصلاحية ،فقد وصل الأمر إلى تعرض بعضهم للمحنة والقتل والتحريق بتهم الهرطقة والخروج على الدين ، إلا أن كل هذه المعاناة لم تكن سوى تجذير للجديد في ذات التربة القديمة – تربة توازنات القوى – استوى هذا التجذير على سوقه يوم استوى فأدى إلى ثورات عارمة أعادت ترتيب الأمور وفق أسس وأطر جديدة ظلت تتطور هي الأخرى إلى أن وصلت إلى ما نراه اليوم في عالم السياسة الأوروبي والغربي عموما،كل خطوة تؤدي إلى ما بعدها إلى أن وصل الحال بهم إلى المنهجية البرغماتية التي تعتمدها معظم دول العالم الغربي اليوم.
هذا التوازن بين السياسي والديني افتقدته التجربة السياسية الإسلامية- إلا نادراً- وكان لذلك أثرٌ ضار على فكرة الدولة الإسلامية وإنزالها إلى أرض الواقع على نحوٍ ناجحٍ وموفق، فالملاحظ في التجربة السياسية الإسلامية أن الغلبة كانت للساسة الأمراء على أهل العلم والفقه والفكر والدين ، لا ،بل إن الدين دار عندنا في فلك السياسة إلا نادراً والتفت هي في ثيابه تحت فكرة شمولية الدين لأمري الدنيا والآخرة ،التفافاً ماكراً تم فيه توظيف طائفة علماء الدين لخدمة أهل السياسة الزمنية على نحوٍ لم يأبه له الأولون ، وهذا ما حدا بمحلل اجتماعي وتاريخي مثل ابن خلدون أن يفرد باباً كاملاً في مقدمته لمناقشة هذه الظاهرة ،تحت عنوان "فصلٌ في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين في الجملة" ، وهو يعني بقوله هذا ، أن الحاكم لا يستتب له أمر الحكم إلا إذا توسل إليه بما هو مثالٌ متعالٍ "الدين" ، وهذا التوسل يجعل أمر الدين طوع بنان الحاكم يفسره ويؤوله لمصلحته عبر ضعاف النفوس من الفقهاء والمفكرين الذين يميلهم إلى جانبه بمغريات الدنيا وجزيل الهبات والعطايا ليعطوا سياسته الزمنية شرعيتها عبر الدين ،وهذا في المقابل يجعل معارضة مثل هذا الحاكم أمراً عصياً ،ما لم يجنح المعارض هو الآخر إلى تفصيل شارة دينية لنفسه يتأول فيها ذات دين الحاكم على نحوٍ يخدم معارضته بعيداً عن المفهوم الزمني البرغماتي للمعارضة،ولا شك أنه في مثل هذا الصراع المتدثر بالدين تكبت أي محاولة لتفكير عقلاني حر، هذا إذا ما علمنا ضرورةً أن الإبداع الإنساني لا يمكن أن يزدهر أو يثمر إلا في ظل الحرية الفكرية التي تكفل للعقل الموضوعي الناقد الانطلاق نحو البحث والتأمل والتجريب والاختبار ،وبهذا وحده تتوفر له أسباب التعلم من الخطأ ،وبهذا وحده يمكن له إنتاج وسائل وأدوات يحل بها إشكاليات السياسة والاقتصاد والاجتماع..إلخ المشكلات التي تواجهه.
لقد كان نضوب المعين الفكري السياسي الإسلامي وغياب الإبداع في هذا الباب ، هو السبب المباشر - في نظري-الذي أدى إلى فشل مشروعات الإسلام السياسي ومنعها من ملامسة أرض الواقع لإنتاج دول ناجحة وتأسيس نظم إسلامية طموحة تخرج بالمصحف من المسجد إلى حيز الممارسة والتطبيق في حياة الناس وأمر معاشهم، فالرأي عندي أن حسن النوايا وحده لا يخدم القضايا،فمثلاً لا يمكن لفكرة متناقضة أن تنتج مشروعاً ناجحاً ولو صدقت نية صاحبها ،وأعني بالتناقض هنا،التناقض السافر الواضح للعيان ، لا التناقض الجدلي الذي لا تخلو منه أي فكرة على رأي المنهجية الهيجلية التي استعارها ماركس لتحليل التاريخ، وأقصد من كل ذلك أن أنتهي إلى نتيجة مؤداها أن المشروع العملي الناجح لا بد أن تسبقه فكرة جيدة معافاة من الشيزوفرينيا والانقسام الفكري ، أياً كان هذا المشروع ،اجتماعي ،ثقافي ، سياسي..إلخ. "يتبع".
"4/7"
بناءً على التوطئة التي أوردتها في الحلقات السابقات فإنني أحاول قدر المستطاع الاقتراب من التجارب السياسية السودانية المعاصرة التي اتخذت من الإسلام مشروعاً سياسياً لها، وهدفي من هذا الاقتراب الوقوف على مدى واقعية هذه التجارب ومدى إبداعها في تعاطيها مع مبادئ الإسلام ، بل ومدى صدقها فيما بشرت به ، وهل هي تسامت بالظرف والواقع لتصعد به إلى تعالي الدين ثم النزول بهذه الأفكار لإقامة الدولة الإسلامية على تراب السودان ، أم أنها فقط تدثرت بالدين لتحقيق مآرب وأهداف سياسية زمنية اتخذت الإسلام وسيلة لتحقيقها ،إيماناً منها بمقولة ابن خلدون "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثرٍ عظيم من الدين في الجملة".
سعياً وراء هذه الغاية فإنني أدلف تلقاء التاريخ السوداني الحديث استنطقه وأحاول اختزال بعض وقائعه لأحللها – على قدر وسعي وجهدي في التحليل – وأبدأ الولوج في هذه المغارة الغير مأمونة العواقب بنموذج الدولة المهدية التي قادها الإمام محمد أحمد المهدي عليه رحمة الله، وقد حثني لانتقاء نموذج الحركة المهدية أمورٌ عديدة منها:-
1- أن القيادة المهدية تبنت الطرح الإسلامي منذ انطلاقة شرارتها الأولى ،مستفيدةً في معارضتها لنظام الخديوي من فكرة المهدي المنتظر الثابتة في العقيدة الإسلامية، إذ يلفت النظر أن الثورة المهدية لم تتوسل في معارضتها للنظام الحاكم وقتئذٍ لا بالقومية ولا بالقبيلة والعشيرة على النحو الذي جرى في تحالف الفونج والعبدلاب عند تأسيس المملكة السنارية ،أو على النحو الذي جرى في تأسيس مملكتي الفور والمسبعات أو ممالك شمال السودان ذات الطابع الإسلامي، والتي تم تأسيسها جميعها تقريباً على نظام القبيلة الضارب بجذوره في البيئة الاجتماعية السودانية.
2- من الأسباب التي حثتني لاختيار هذا النموذج أيضاً النجاح الباهر الذي حققته الحركة المهدية والذي لا يتناسب أبداً مع إمكانياتها الزمنية إذا ما قيست بإمكانيات خصومها السياسيين الذين استتب لهم أمر الحكم في السودان منذ العام 1821م.
3- من الأسباب اللافتة للنظر أيضاً في نموذج الحركة المهدية،أنها استطاعت تأسيس دولة وفق تأويلها الخاص للإسلام ،ذلك أنها طبقت الشريعة وفق رؤى وتفسيرات قيادتها التي لم تلزم نفسها بأي مذهب من المذاهب الإسلامية المعروفة،ولم تركن إلى اجتهاد إي فقيه من فقهاء الإسلام السابقين عليها ، وتبنت بدلاً من ذلك مبدأ " أن ما فيه نصٌ فعلى العين والرأس وما ليس فيه نص فهم رجال ونحن رجال"،وبذلك فتحت الباب لنفسها واسعاً فيما يتعلق بقراءة النصوص بما يتواءم مع الزمان والمكان ،وهذا في نظري هو سر النجاحات التي حققتها الحركة على أيام الإمام المهدي.
لهذه الأسباب مجتمعة رأيت أن الحركة المهدية تعتبر من أفضل النماذج المعاصرة التي يمكن الولوج من خلالها إلى الإسلام السياسي عامةً وإلى الإسلام السياسي السوداني بوجهٍ خاص ، وهي أي - الحركة المهدية – لم تكن في حقيقة أمرها سوى ردة فعل طبيعية للظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاستبداد الذي تعرض له أهل السودان الشمالي والوسيط من نظام الخديوي المهيمن على حكم السودان وقتئذٍ ،وبما أن النظام الخديوي اعتبر نفسه امتداداً ولو اسمياً لدولة الخلافة التركية الإسلامية فإنه كان من الصعوبة بمكان التصدي له بمعارضة سياسية زمنية برغماتية حال كون أن مثل هذه المعارضة تضع المعارض أمام سيل من فتاوى البغي والمروق على أصل الخلافة الثابت في الدين ، هذا إن لم يبلغ الأمر حد التكفير ، فكما قلنا سابقاً إنه لا يجوز في نظر علماء السلطان الخروج على الحاكم المسلم حتى ولو كان فاسقاً وظالماً لكون ذلك في نظرهم يؤجج الفتنة ويشق صف جماعة المسلمين وأكثر من ذلك يرون فيه خروجاً صريحاً على قوله تعالى " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" ، ويرون فيه أيضاً مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم "اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبدُ حبشي" الحديث.
هذا الجدار السميك الذي أقامته السلطة الحاكمة وقتئذٍ حول نفسها ،والذي صنعت لبنه من الدين لتبرير ظلمها واستبدادها ما كان يمكن للإمام المهدي أن يوجد ثغرة فيه إلا بمنازلة السلطة بذات سلاحها ،وهذا في ظني هو سبب نجاحه في حشد الجماهير السودانية حول برنامجه السياسي، وهو بهذا استفاد من معطى الدين سياسياً ، ونجح في مهمته في المعارضة يوم أن أعلن على الملأ من أول يوم أنه مهدي الله الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً باسم دين الله وباسم الخلافة المستقوية على المستضعفين من أهل السودان بالإنجليز.
هذه الفكرة الضاربة بجذورها في عقيدة الأمة "فكرة المهدي المنتظر" حفزت الناس للالتفاف حول الإمام المهدي، إذ رأوا فيه منقذاً لهم من الظلم الذي حاق بهم ،ومخلصاً لهم من الضرائب التي أثقلت كاهلهم ،وقد استطاع الإمام المهدي بهذه الفكرة الدينية أن يوجد للناس مبرراً دينياً في الخروج على حاكمهم المهيمن عليهم باسم الدين والخلافة، فكان شعار المعارضة في مواجهة هذه الهيمنة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وهذا ترتب عليه أن رجعت فتاوى علماء السلطة في مواجهة المعارضة خائبةً مهزومة ، في معركة عرف الإمام المهدي كيف يوظف فيها الدين لمصلحة مشروعه السوداني الإسلامي المتطلع إلى الاستقلال،وقد بدا الرجل صادقاً في مشروعه حين تبنى الإسلام في منهجيته لبناء الدولة بصورة شمولية تأففت عن التورط في الانتقائية والتجزيء ،فأعلن الجهاد المقدس من أول يوم ، حين رأى في خصمه التورط في خلة الاستعانة بالكفار " الإنجليز" ، ومخالفته الصريحة لقول النبي "ص" للذي تبعه يوم أحد وهو على شركه "أرجع فإني لا استعين بمشرك" ،وبهذه المعاني الدينية استطاع الإمام المهدي أن يوحد أهل السودان الشمالي والوسيط وأهل كردفان والشرق في مواجهة حكم الخديوية ،فكتب له الانتصار عن طريق فكرة المهدية المتطلعة إلى إقامة دولة إسلامية تتحرر من كافة آراء الفقهاء خاصةً فقهاء السلطان الذين ناهضوا دعوى الإمام بفتاوى لم توفق في هزيمة مشروعه الوطني، وحين كتب الانتصار للحركة وطردت المحتل الإنجليزي المصري أرسى المهدي دعائم دولته على فهمٍ خاص به لنصوص الإسلام تحرر فيه من كافة قيود المذاهب الإسلامية ، مطلقاً مقولته الشهيرة " ما ورد فيه نصٌ فهو على العين والرأس وما لم يرد فيه نصٌ فنحن رجال وهم رجال" ، وهذا الفهم التحرري لا شك أنه أعطى الإمام المهدي إمكانيات مرنة لمواجهة واقع الزمان والمكان الذي وجدت فيه دولته ، مع استصحاب ما تواتر من عمل الدولة الإسلامية على أيام النبي "ص" والخلفاء الراشدين ، فهذا الاستصحاب جعل الإمام يختار عبد الله ودتورشين خليفةً له رافضاً بذلك ما تواتر عليه المسلمون بعد الراشدين من توريث الملك والخلافة ،وهذا فيه دلالة على أن الإمام كان يعتقد في فكرة المهدية وإقامة الدولة الإسلامية اعتقاداً صادقاً كمخلص للمسلمين من مشاكلهم الدنيوية والأخروية.
وبعد وفاة المهدي حاول الخليفة عبد الله إدارة الحرب والدولة على هذا النمط المترسم لخطى دولة النبي "ص" ، فبدأ بقتال الديار المجاورة تمشياً مع الآية "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" فسير الجيوش إلى الحبشة ومصر الإنجليزية بقيادة النجومي وأقام القضاء الشرعي وفق تفسيرات المهدية للنصوص الشرعية إلى أن وصل بالدولة الحزم في أمر القضاء إلى تعزير متعاطي "التمباك" والتباكو، لكن بعد فترة وجيزة من عمر الدولة بدأ صراع الجاه والمال والسلطان يطل برأسه بين جناحي الخليفة والأشراف، فتولدت صراعات جهوية لم يستطع الطرح الديني أن يقطع شأفتها، فعلى الرغم من أن الدولة المهدية عاشت وحدة فكرية خلت من الانقسام النفسي والشيزوفرينيا السياسية ،إلا أنها للأسف لم تستطع تجاوز أزمات الصراع الجهوي الذي حركه تعارض المصالح والبحث عن المجد على طريقة ابن خلدون التي وضح فيها أن المعارضة ما أن تصل إلى الحكم حتى يتطلع بعض أفرادها إلى المجد ، ويتصارعوا إلى أن يستتب الأمر لبعضهم فيمجدوا ثم تتولد معارضة جديدة تأخذ هي الأخرى حظها من هذا الدور ،وهذا هو تحديداً ما حدث في الدولة المهدية بعد موت الإمام المهدي، فكثيرٌ من الأشراف والسودانيين الآخرين الذين عارضوا حكم الخليفة عبد الله لم تعد مسألة إرجاعهم إلى كنف الدولة بسلطان الدين فكرة عملية أو جاذبة بعد أن ولج التدافع الزمني البرغماتي إلى حلبة الصراع ،وأظن أن من بين أسباب هزيمة الخليفة عبد الله في كرري أن فكرة العقيدة المهدوية ماتت جذوتها بعض الشيء في نفوس الكثيرين من أهل السودان خاصة السودان الوسيط "الجزيرة" والشمالية، فبعضٌ من السودانيين رأى في الخليفة رجلاً منحرفا عن العقيدة المهدوية إلى الجهوية والقبيلة ،وبعضٌ آخر روج إلى أنها –أي المهدوية- لم تكن سوى فكرة تضليلية استثمرها الإمام لإنجاح مشروعه وضرب خصومه ،خاصةً بعد أن سعى آخرون إلى الترويج لأنفسهم والإدعاء بأنهم هم الآخرون مهديين منتظرين،ومن باب التشكيك هذا ولجت شياطين التخذيل تفت في عضد دولة الخليفة الذي فشل في توحيد الجبهة الداخلية في مواجهة المحتل،وبانهيار الجبهة الداخلية أستطاع الغزو الخارجي السيطرة على أوضاع البلاد بيسر لا عناء فيه خاصةً في ظل اختلال ميزان التسليح بين دولة الخليفة والغزاة، وهكذا انتهت الدولة المهدية التي طرحت مشروعاً فكرياً تقدمياً في منهجه لبناء دولة إسلامية في السودان،وفي نظري أن من أخص أسباب فشل هذا المشروع أن منهجية الإمام المهدي في قراءة النصوص لم تجد من يطورها بعده لمواجهة تحديات الواقع،أو قل لم تجد من يعملها في النصوص للخروج منها بحلول للمعضلات والمشكلات،وفي قناعتي أن أي فكرة أو منهجية تقف عن التطوير فإن مآلها الجمود والتحنط وعدم الفاعلية، فأي متأمل في الحركة المهدية يستطيع أن يلحظ بسهولة ويسر مدى الفاعلية التي كانت تتمتع بها فكرة المهدوية أيام شباب الحركة، ويلحظ كيف أن حرارتها جعلت الدين فاعلاً في النفوس ومفجراً للطاقات على نحو أدى إلى هزيمة دول منظمة وإخراجها طريدةً ذليلة من البلاد ، فلما ماتت الجذوة والفاعلية وانطفأ البريق رحلت كل فراشات الطلاقة الجهادية تبحث لنفسها عن ضوء آخر وبريق آخر يجدد فيها فاعلية الدين. وظل الحال على هذا النحو يرنو فيه الجميع على أيام الاستعمار الإنجليزي المصري إلى مخلصٍ جديد فولدت حركات إسلامية جاء جلها ميتاً عند الولادة ،فلم تظهر في البلاد حركة فكرية إسلامية وطنية فاعلة بعد الحركة المهدية ، وبسبب ذلك التفت الآملون في قيام دولة الإسلام إلى مصر العربية يستوحون منها أفكار الأخوان المسلمين لبناء نظام سياسي توجهه عقيدة الإسلام ،لكن إلى أي مدى كانت حركة الأخوان واقعية في طرحها ،وإلى مدى ارتقى إبداعها في إنتاج الحلول لمشكلات بلدٍ فسيفسائي مثل السودان؟
في رأيي أنه للوقوف على ذلك لا بد من إطلالة ولو عابرة على فترة المقاومة الوطنية للحكم الإنجليزي المصري وتحليل وقائع تاريخية مختزلة منها علها تساعد في توضيح الصورة فيما يتعلق بعلاقة الدين بالسياسة في تلك الفترة،وعلها تساعد في تقويم المنهجية الإسلامية التي ركب قطارها من يؤمنون بالدولة الإسلامية كمخرج وحل لأزمات المسلمين المعاصرة. "يتبع".

"5/7"
من خلا ل ملاحظتي المتواضعة على تاريخ الحركة الوطنية لمقاومة الحكم الإنجليزي المصري خلصت إلى نتيجة مؤداها أن حركة المقاومة الوطنية انتهجت في مقاومتها للحكم الثنائي خطاً قومياً وطنياً لم تجنح فيه إلى مسألة الدين كثيراً، والسبب في ذلك في نظري أن العدو هذه المرة كفره سافر وصريح ،فهو لم يتذرع بالدين لإعطاء الشرعية لحكمه ولم يجنح إلى استصدار الفتاوى لتثبيت أركانه إلا نادراً وقليلاً بل في وقائع تندرج في باب الشذوذ، فإذا ما استثنينا عبد القادر ود إمام "ود حبوبة" في الجزيرة كامتداد للحركة المهدية نلحظ أن التدثر بالدين ورفعه شعاراً للمقاومة يكاد يكون في حكم النادر أيضاً ،ذلك أن الإنجليز رفعوا من أول يوم شعار الوصايا وأوحوا إلى الجماهير السودانية بأنهم لم يأتوا مستعمرين ،بل جاءوا معاونين للمصريين في تطوير السودان وتحديثه و النهوض به والخروج به إلى مصاف الدول الرشيدة ، - أي أنهم جنحوا إلى أساليب السياسة الزمنية البرغماتية – وهذا في رأيي ما حدا بالمقاومة الوطنية إلى التصدي للاستعمار الثنائي بذات السلاح ،فكانت حركة 1924م حركة قومية وطنية لم تبن مقاومتها على أساس الدين ،وإنما قادت المقاومة باسم أهل السودان جميعاً، بل وسعت الماعون ، لتكون مقاومتها باسم أهل وادي النيل كلهم ، مسلمين ومسيحيين ، وتبنت في سبيل إنجاح مشروعها وحدة وادي النيل ، وهو بلا شك شعار قومي فيه ثمة تعارض مع منهجية الإسلام السلفية وأممية دولته التي تعني المسلمين وحدهم في كافة أقطاب الأرض ولا يعنيها من أمر غيرهم إلا عهد الذمة والأمان.
أيضاً إذا أدرنا النظر تلقاء حركة نادي الخريجين ،فإننا نلحظ عليها أنها تشكلت على أساس قومي وطني بعيداً عن اعتراك العقائد الدينية وأطروحاتها الدوغمائية ، فقد ظلت حركة النادي تستمسك بهذا النهج القومي في المقاومة تدحض عن طريقه ألاعيب السياسة الإنجليزية وخططها فيما يخص أمر السودان ، خاصةً سياستها في قفل الجنوب ومحاولات تنصيره ، فقد قاومت حركة نادي الخريجين هذه السياسة لا بسبب التبشير الذي صحبها ،وإنما لأنها رأت فيها محاولة خبيثة لتعميق عوامل الانقسام بين الجنوب والشمال ، ولأنها رأت أيضاً في التبشير الذي صحب تلك السياسة وسيلةً من وسائل الدول الغربية لبسط نفوذها في القارة السوداء ، وهي لم تشذ في ذلك عن بعض نصارى أفريقيا الذين عارضوا هذه السياسة وعلى رأسهم كنيسة الحبشة التي رأت في حركة التبشير المسيحي التي قادها الغربيون في بلادها ضرباً من التمهيد للأساطيل والجيوش ومقدمة من مقدمات الاستعمار المبطن بما هو إنساني ديني.
ظل هذا النهج الوطني القومي هو المتبع في مقاومة الاحتلال،بل لم يتنكر له منتهجوه حتى حين وقع الانقسام الشهير بين الخريجين الذي أنتج نواة الأحزاب السودانية الأولى، فكانت حركة الأمة التي تبنت شعار السودان للسودانيين كطرح زمني برغماتي يعارض طرح الحركة الاتحادية التي تبنت هي الأخرى شعاراً قومياً ليس في وسعه أن يزايد على الدين ، وهو شعار وحدة وادي النيل،وهذا الانقسام الذي أدى إلى تشكيل باكورة الأحزاب السياسية السودانية كان في ظاهر أمره يبدو نتاجاً طبيعياً لاختلاف وجهات النظر بشأن مقاومة السياسة الإنجليزية في السودان وكيفية التصدي لها ، أي أنه تقمص شكل الاختلاف على نوعية الوسائل التي يجب التصدي من خلالها للمستعمر ، لكنه في حقيقة أمره كان صراعاً بين طائفة الأنصار التي اتكأت على الموروث المهدوي وبين التنويريين الجدد من الوطنيين الاتحاديين الذين أرادوا أن ينحو بالسياسة منحىً زمنياً وإن كان غير معلن، إلا أنهم فيما بعد ارتدوا عن هذا النمط السياسي الزمني بعد ارتمائهم في كنف طائفة الختمية.
اختلف قطبا المعارضة الاتحاديين ودعاة السودانوية ، وتباينت مواقفهم بشأن الكثير من القضايا من مثل المجلس الاستشاري لشمال السودان ومؤتمر جوبا 1947م والجمعية التشريعية والحكم الذاتي وغير ذلك من المسائل السياسية التي سادت الساحة السياسة السودانية في ذلك الوقت، لكن لم يجنح أي طرف من أطراف المقاومة إلى توظيف الدين كأداة أو وسيلة يمارس السياسة من خلالها أو يكيد بها للخصوم ، حتى أنه من الملاحظ أن حركة الجبهة المعادية للاستعمار ظلت تطرح وسائلها في المقاومة من غير أن تتعرض لأي مضايقات دينية مع أنها تبنت الطرح الماركسي اللينيني من أول يوم في مقاومتها للاستعمار ، فلم يزايد عليها أحد باسم الدين ،فظلت تسهم في المقاومة الوطنية بجهدٍ مقدر من غير أن ينسب إليها أحد سبة الخروج على الدين وظل حالها على هذا النحو إلى أن تمخضت وولدت الحزب الشيوعي السوداني الذي ظل يرفض تديين السياسة من يوم مولده وإلى يوم الناس هذا، وتعرض بسبب ذلك إلى مضايقات كثيرة أثرت في حجمه وقللت من تأثيره الاجتماعي وأبعدت عنه الجماهير شيئاً كثيرا.
ظلت حركة المقاومة الوطنية في كافة فصائلها في شد وجذب، تتفق حيناً وتختلف أحياناً في وسائل التصدي للاستعمار وفي كثيرٍ من المسائل الإستراتيجية ،لكن أبداً لم تركن قيادتها إلى الابتزاز الديني لتسوية الخصومات السياسية ،فالكل رفض التخوين الديني لغرض الكسب السياسي ولم يشذ عن هذه القاعدة أحد حتى الآباء المؤسسون لحركة الأخوان المسلمين من أمثال إبراهيم المفتي وعلى طالب الله وبدوي مصطفى وبابكر كرار ، فعلى الرغم من أن الايدولوجيا التي تبناها هؤلاء المؤسسون مرجعيتها دينية سلفية إلا أنهم لم يجنحوا إلى المغالاة أو المزايدة على خصومهم السياسيين في دينهم، وظل نقد فصائل المقاومة بعضها لبعض ينطلق من منطلق زمني برغماتي هدف الجميع من خلاله إلى تحقيق الاستقلال. "يتبع"

"6/7"
بعد رحلة طويلة من الكفاح السياسي تحقق الاستقلال ، ولم يجد قادته غضاضة في تبني دستور الحكم الذاتي ذو الصبغة العلمانية بعد تعديله ليكون أول دستور لدولة السودان المستقلة "دستور 1956" وظلت السياسة في ظله تمارس بين أهل السودان وفق الرؤى الزمنية البرغماتية حيناً من الدهر قليلا، لينتهي الأمر بعد ذلك في 1958 إلى المؤسسة العسكرية التي لم تتبدل هي الأخرى النهج السياسي الزمني، والملاحظ أنه بعد أن انتهى برنامج المقاومة الذي شغل الجميع وقتاً طويلا، اشتعل الصراع على السلطة والجاه والمال، وأصبح هذا الثالوث برنامجاً بديلاً لبرامج مقاومة الاستعمار،وفي ظل هذا الصراع الزمني المؤنسن ، تلفت بعض الساسة من أهل السودان إلى التاريخ والتراث لا ليستصحبوا ما فيه من إيجابيات ويطوروها لخدمة الشعب والبلاد، وإنما ليستعيروا منه وسائل الدهاء والمكر السياسي ،فوجد كثيرون منهم ضالته في استخدام الدين كوسيلة لإحراج الخصوم ولوي أذرعتهم خاصةً بعد ثورة أكتوبر 1964م،وكان لهذا المنهج المخاتل أثره الضار على تطوير الفكر السياسي الإسلامي على نحوٍ علمي وموضوعي حتى أن الكتابات السودانية القليلة التي أنتجت من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا فيما يخص السياسة لم تكن تهدف في حقيقة أمرها إلى إنتاج دولة الإسلام بقدر ما أنها كانت بمثابة ردة فعل تبريرية لمجابهة الخصوم وإبعادهم عن مراكز القوى والنفوذ ويقف شاهداً على ذلك صراعات الجمهوريين "جماعة محمود محمد طه" والإخوان المسلمين ، وكذلك الصراعات الإيديولوجية التي دارت بين الأخيرين وبين ذوي التوجهات اليسارية من شيوعيين وناصريين وقوميين عرب،ولقد كان لهذه الصراعات الإيديولوجية أثراً سيئاً صرف الجميع عن البحث المعرفي الجاد لإنتاج فكر سياسي ناضج ينطلق من واقع الدولة السودانية ويسعى إلى إنتاج أفكار عملية تلبي متطلبات ذلك الواقع، ولا ادعي أنني قرأت كل إنتاج الفترة الممتدة من أكتوبر حتى تاريخ اليوم،ولكن فيما يتعلق بالأفكار السياسية العملية فيما يخص الفترة من الاستقلال وحتى اليوم لم أقف على أي فكرة سياسية عملية تزعم أنها تنطلق من مرتكزات إسلامية وتضع تصوراً لشكل الدولة وتُنَظِر لعلاقة الدولة بمواطنيها وكيفية حكمهم سوى فكرة أسس دستور السودان التي استوحاها محمود محمد طه من الدستور الأمريكي وطرح فيها الفيدرالية بعد إجراء تعديلات عليها تجعلها تتوافق مع الواقع السوداني.وبما أنني في هذا المقال مشغول بالفكر الإسلامي السياسي، فإن محمود محمد طه ليس ببعيد عن نطاق ما يشغلني ، ذلك أن أطروحته الفكرية ليست مقطوعة الصلة بمدارس الفكر الإسلامي،خاصةً أنه زعم الانطلاق فيما طرحه من مرتكزات إسلامية وأن أطروحته تمثل خلاصة ما قاده إليه اجتهاده ،وهو زعم يدخله في دائرة الفكر الإسلامي حتى لو اتهمه البعض بالشطط والجنوح في الاجتهاد إلى غير مألوف الناس.
المتأمل في مخرجات ثورة أكتوبر المتفجرة بسبب تأزم حرب الجنوب ، يلاحظ أنها أدخلت الدين بكثافة إلى حيز السياسة السودانية بعد أن ابتعد عن هذا النطاق طيلة فترة المقاومة الوطنية للحكم الثنائي،فبعد أكتوبر حاولت الأحزاب السياسية السودانية الكبيرة باستثناء قوى اليسار إيجاد نسب بينها وبين قضية الشريعة الإسلامية،وتحدثت جميع قوى اليمين عن الدستور الإسلامي،وبشرت به كحل لأزمات البلاد في شتى صورها وضروبها، لكن للأسف هذا التبشير لم يتجاوز حيز الخطب الحماسية التي ألهبت العواطف والمشاعر دون العقول، رغم الأسئلة الكثيرة التي طرحت بمناسبة الحديث عن الدستور الإسلامي والتي كان من المؤمل أن تكون الإجابة عليها حافزاً لإنتاج فكر سياسي إسلامي ناضج يلامس واقع الفضاء السوداني،إلا أنه بدلاً عن ذلك حاولت الأحزاب الكبيرة ممثلة في الأمة والاتحادي المزايدة على أمر الدين بعد أن جرهم إلى هذا الميدان الأخوان المسلمون الذين هم الآخرين قصر بهم اجتهادهم بل استقالت منهم في هذا الحيز العقول ،فلم ينتجوا فكراً سياسياً يقنع العقل الناقد، وظل دورهم منحصراً في إحراج الخصوم خاصةً من الأمة والاتحاديين وتصوريهم لمؤيديهم على أنهم لا يعنيهم أمر الدين ولا الدولة الإسلامية في شيء وبذلك انصرف الجميع عن التفكير الموضوعي الذي يبحث عن الحلول لمشكلات السياسية السودانية ، وأصبحت علاقة الدين بالدولة بذلك هي أم المشاكل والمعضلات التي أنتجها صراع الخصوم على مسائل زمنية تتعلق بالسلطة والجاه والمال، وكانت هذه العلاقة "علاقة الدين بالدولة " هي الصخرة الكأداء التي تحطمت عندها آمال السودانيين الذين اصطفوا وصفقوا للاستقلال. فالمتصارعين من ذوي النفوذ والطموح أنتجوا المشكلة لكنهم جميعاً وقفت عقولهم عن إبداع حلٍ لها، وقصرت بهم طاقاتهم الفكرية عن إنتاج فكرة إسلامية عملية شمولية تتنزل بمثال الدين الإسلامي إلى واقع الدولة السودانية.،وتولد عن ذلك أن أعتاد السياسيون والمفكرون الإسلاميون السودانيون العيش والتوافق مع المتناقضات ،وكان حصاد هذه الشيزوفرينيا السياسية أن أيدت جميع الأحزاب السياسية السودانية اليمينية و طاقاتها الفكرية مبادئ ثورة أكتوبر وكذلك أيدت مقررات المائدة المستديرة، مع أن تلك المقررات كانت ذات صبغة علمانية على الأقل فيما يخص علاقة الفرد بالدولة، فقد أسست تلك العلاقة على المواطنة لا الدين ،فضلاً عن أن الحلول التي اقترحت في ذلك المؤتمر لمشكلة الجنوب قاربت جميعها الزمنية والأنسنة والبرغماتية ،ولم يقل لنا ولا واحد من مفكري اليمين الإسلامي عن وجه الاجتهاد الإسلامي المبدع الذي أستند إليه في تأييد تلك المقررات ذات الصبغة الزمنية ، بل إن جميع قوى اليمين بما في ذلك حركة الأخوان المسلمين ممثلة في جبهة الميثاق الإسلامي خاضت انتخابات ما بعد أكتوبر مما يعني وفق نظرية العقد الاجتماعي قبولها لهذا الوضع الزمني العلماني الذي أنتجته ثورة أكتوبر. "يتبع"

"7/7"
وعندي أن غياب الرؤية الشمولية فيما يخص أمر الدولة الإسلامية أدى إلى ارتباك قوى اليمين ووقوعها في أدواء الانقسام النفسي والفكري والتأرجح في المواقف السياسية بين النقيض ونقيضه،يدل على ذلك أن ذات القوى التي أيدت مؤيدات المائدة المستديرة وذات القوى التي صنعت أكتوبر المتفجرة بسبب أزمة الجنوب عادت هي الأخرى لتطرح في العام 1968م مشروع الدستور الإسلامي، الذي قصرت آلة الاجتهاد عند معديه ومقدميه عن بلوغ الغاية والمقصد، فقد تناسى القائمون على أمر الدستور الإسلامي الواقع القومي الذي يتصادم مع كثيرٍ من النصوص الشرعية ذات العلاقة بالولاية العامة ،وتلك التي تنظم علاقة غير المسلم بالدولة الإسلامية من مثل عقود الذمة والأمان ، وقد بلغ الحرج بمقدمي الدستور الإسلامي مبلغه عندما جابههم ذوي الانتماء القومي غير الإسلامي بأسئلة في هذا الصدد داخل جلسات البرلمان"فيليب غبوش"، هذه الأسئلة الكثيرة التي انفتحت بشأن مدى صلاحية الدستور الإسلامي للتطبيق في واقع الدولة السودانية كان المؤمل منها أن تفتح باباً للبحث والتفكير عن حلول واجتهادات مبدعة تجد لنفسها سنداً في الدين نفسه ، لكن للأسف تعامل الجميع مع الأمر وكأن شيئاً لم يحدث ،فلم نر كتابات جادة أو تفكير مستثار تشحذ همته قضية البحث عن حلول عملية للمشكلة،وما يحز في النفس أكثر،أن بعض مفكري العالم الإسلامي الذين لم يجابهوا في واقع بلدانهم بمثل هذه الأسئلة ،أعمل الكثيرون منهم عقولهم وفرضوا الفروض واستنبطوا حلولاً فيما يتعلق بإشكال الدولة الإسلامية ولا يعنينا في شيء أن نتفق أو نختلف مع تلك الحلول، وإنما الذي يعنينا أنهم أعملوا عقولهم في الوقت الذي استقالت فيه عقولنا عن التفكير ، ومن أولئك الذين تفتقت عقولهم عن اجتهادات في هذا الباب على سبيل المثال المفكر المغربي علال الفاسي الذي أبدع فكرة إجماع الأمة للعبور عن طريقها إلى فكرة الديمقراطية ، وقد حاول القائمون على أمر دستور 1998م الاستفادة من هذه الفكرة في صياغة المادة "65" من الدستور التي عالجت مسألة مصادر التشريع ،فقد نصت المادة "65" من الدستور المذكور على أن " الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً وعرفاً هي مصادر التشريع ..إلخ المادة " فإجماع الأمة عبر آلية الاستفتاء في هذا النص مصدر مساوٍ تماماً للشريعة الإسلامية ،ذلك أن المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه، وإجماع الأمة في هذا المقام هو غير إجماع الشريعة الذي هو مصدر داخلي من مصادرها،ونفس الشيء يقال عن العرف وهو هنا أيضاً العرف العام وليس عرف الشريعة الذي هو مصدر داخلي من مصادرها، والذي كما نعلم يتقيد إطلاقه بنصوصها ولا يجوز أن يخالفها،وكنت آمل أن يشير الذين اقتبسوا هذه الفكرة " فكرة إجماع الأمة"إلى صاحبها "علال الفاسي" ويقولوا إنهم مقلدة للرجل، وإلا وجب عليهم أن يبدوا للناس وجه إبداعهم واجتهادهم الذي قادهم إلى صياغة مثل هذا النص الدستوري "المادة 65" وسند ذلك من المنقول والمعقول .
من المبدعين أيضاً الذين تأملوا في مسألة الدولة الإسلامية أبو الأعلى المودودي الذي اصطدم بواقع دولة قومية يشبه واقع دولة السودان تماماً ، من حيث التعدد الديني والعرقي والثقافي، فالرجل قد عاش في ظل دولة الهند الكبرى ذات التباين الديني والعرقي والثقافي الواضح ، وحلم ليل نهار بإخراج فكرة الدولة الإسلامية إلى حيز الوجود ،إلا أنه اختار أن يكون أميناً مع سلفيته بغض النظر عن النتائج التي تقوده إليها فسعى إلى إقامة وطن خاص بالمسلمين وحدهم تكون نواته دولة "باكستان" ،وحاول بذلك أن يتحاشى الانقسام الفكري بعد أن اختار لنفسه أن يساير الدلالات اللغوية للنصوص الشرعية بطريقةٍ سلفية ، إيماناً منه بأممية الإسلام ودولته التي تحصر السلطة في المسلمين دون سواهم وتحدد علاقتها بغير المسلمين على نحو ما ورد في النصوص الشرعية بغير نقص ولا زيادة ونفس الشيء انتهجه في تفكيره بشأن تنظيم علاقة الدولة الإسلامية بالخارج وفق ما انتهت إليه نظرية دار الإسلام ودار الحرب المشهورة عند السلف،لا بل حين اصطدم بواقع الدولة القومية الباكستانية يفرض نفسه ،عنف كل التيارات الإسلامية التي تحلم ببناء دولة إسلامية عبر فكرة القومية، حتى إنه قال في كتابه نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور "ص92" من طبعة مؤسسة الرسالة،قال ما نصه ( ... ومن الناس من يقول بتأسيس دولة قومية للمسلمين ولو غير مستندة إلى قواعد الشريعة الغراء، يقولون به ويدعون إليه ويغتنمون هذه الفكرة في المرحلة الأولى،ويزعمون أنه إذا تم لهم تأسيس دولة قومية يمكن تحويلها تدريجاً فيما بعد إلى دولة إسلامية بوسائل التعليم والتربية وبفضل الإصلاح الخلقي والاجتماعي ،ولكن شهادات التاريخ والسياسة وعلوم العمران تفند مثل هذه المزاعم ،وإن نجح مشروعه فلا شك يكون معجزة (.....) فليت شعري كيف يمكن أن تكون دولة قومية مؤسسة على طراز الديمقراطية عوناً لنا ومساعداً في استكمال هذا الإصلاح السياسي وإنجاز مهمته). بمثل هذه الرؤية المودودية نظرت حركتنا الإسلامية السودانية إلى دستور ي 1956 و1973 ، فرأت فيهما علمانيةً سافرة وخروجاً على نصوص الشريعة واضح للعيان،وسعت ما أمكنها الجهد لتغيير هذا الوضع لكن بلا اجتهادٍ ولا رؤية وبلا منهجية شاملة أو مدروسة،فهي – أي الحركة الإسلامية السودانية -حين ساهمت في إعداد دستور 1968 الإسلامي اصطدمت فكرتها عن دولة الإسلام بواقع الدولة القومية السودانية وتباينات الدين والعرق والثقافة فيها، وكما قلنا لم يحفزها ذلك إلى إبداع حلول أو اجتهادات مبدعة فكان مآل الدستور الإسلامي الفشل وعدم القبول ،وفي عام 1983 تمكنت من فرض رؤية تجزيئية حين ساهمت في إنفاذ قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية ظلت الأمور معها على المستوى الدستوري من الدولة على ذات وضعها القومي ذو الصبغة العلمانية، ولما نالت البغية ووليت أمر الدولة في يونيو 1989م أرادت أن تفرض مشروعها الحضاري ،وفشلت في ذلك بسبب أن المشروع ذات نفسه كان أمراً هلامياً غير محدد المعالم،وبسبب القصور الاجتهادي المبدع ،وجدت الحركة نفسها مضطرةً إلى تجاوز النصوص الشرعية ذات العلاقة ببنية الدولة الإسلامية ولم تجد لنفسها من اجتهادٍ تركن إليه سوى القول بفقه الضرورة ،الذي ورطها في حرجٍ كثير بعد أن أصبح قاعدة عامة مع أن وضع الضرورة عند كافة فقهاء الإسلام هو استثناء عارض يقدر بقدره ثم يعود الأمر إلى أصله وأساسه، فقد رأينا هذه التجاوزات – تجاوزات النصوص الشرعية -في مشروع دستور 1998م الذي نَظَر له الإسلاميون وعلى رأسهم الدكتور حسن الترابي فأخرجوه إلى حيز الوجود ،وبه الكثير من الثغرات التي جعلته عرضة لنقد الجماعات الإسلامية السلفية ، خاصةً أن من قاموا على أمره بشروا الناس بأن منطلقهم إسلامي لكن عند الجد تضاربت نصوص الدستور المقيد بواقع القومية مع نصوص الشريعة على نحو ما أنذر أبو الأعلى المودودي في حديثه السابق ذكره، وقد ظهر هذا التضارب جلياً في فاتحة الدستور في المادة الأولى التي وصفت شكل الدولة ،وقد جاء فيها أن ( دولة السودان وطن جامع تأتلف فيه الأعراق والثقافات وتتسامح الديانات والإسلام غالب السكان وللمعتقدات العرفية أتباع معتبرون )، فهذا النص تضمن اعترافاً بالأمر الواقع بما في ذلك المعتقدات العرفية ،وهو أمر يتعارض مع ظاهر النصوص الشرعية فضلاَ عن أنه- أي النص – التف على شروط الذمة والأمان من غير أن يبين، أما المادة الرابعة من الدستور المذكور "دستور 1998" فقد تضمنت مصطلحات إسلامية لكن عند تدقيق النظر يتضح أنها لا تختلف عما ورد في دستوري 1965 ،1973 من تأسيس لأمر الدولة على القومية والمواطنة فقد نصت المادة الرابعة على أن ( الحاكمية في الدولة لله خالق البشر ،والسيادة لشعب السودان المستخلف يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والحرية والشورى وينظمها الدستور والقانون )، فهذا النص بالفعل تضمن اصطلاحات إسلامية إلا أن النتيجة سيادة قومية لا تختلف عن سيادة أي دولة قومية زمنية، فالحاكمية وفق هذا النص لله خالق البشر ،ولكن السيادة "الشأن الدنيوي" لشعب السودان المستخلف بكافة أطيافه الثقافية والدينية والعرقية ،وهذا فيه أيضاً التفاف على نظرية الاستخلاف الإسلامية ،وكنت بصدد هذا الالتفاف من الذين ينتظرون تخريجاً أو تأويلاً إسلاميا مبدعاً،ونقبت عن ذلك في مقالات الإسلاميين ولم أجده ،وبشرت نفسي بالظفر به عند صدور كتاب النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع للدكتور حسن الترابي إلا أنني لم أظفر ببغيتي فيه،ولم أجد فيه ما يشفي الغليل،وأصابني بالإحباط أنه حتى فكرة إجماع الأمة التي طرحها الدكتور حسن الترابي في كتابه المذكور لم يتبعها بصناعة شرعية على طريقة علماء الأصول الذين إن قال أحدهم على سبيل المثال بتخصيص النص بالمصلحة على نحو ما فعل نجم الدين الطوفي أو برفض القياس على نحو ما فعل ابن حزم فإنه عادة ما يتبع هذا القول أو هذا الرفض بسند من المنقول والمعقول.
أما الدستور الأخير – دستور 2005- المستوعب لبرتوكولات نيفاشا ،فتدل غالبية نصوصه على التسليم للأمر الواقع في الدولة السودانية ،لا بل تمثل حالة إحباط لدى الإسلاميين تنذر بموت الإبداع والاجتهاد لديهم،خاصةً مع اجترارهم آراء الاتجاهات الفكرية التي فجروا معها في الخصومة واستصحابها في شئون الحكم والسياسة،والاكتفاء بالتبشير اللفظي بالدولة الإسلامية ،وهذا يؤخذ عليهم ويجعلهم محل اتهام فحواه أنهم لم يكونوا دعاة فكر وإبداع إسلامي بقدر ما أنهم كانوا برغماتيين سياسيين،بل يضعهم في مجابهة مع تهمة استصحاب الدين لغرض الوصول إلى السلطة ،فضلا عن ذلك فإنه يمكن القول بأن ندرة العقل الناقد في الحركة الإسلامية السودانية ، والانصراف عن إيجاد إجابات للتساؤلات المفتوحة بشأن الدولة الإسلامية ،أديا إلى ذبول فكرة الدولة الإسلامية وانتهائها إلى نوع من الإحباط أنتج لنا متطرفين دغمائيين يلوكون هم الآخرون مقولة دولة الخلافة الإسلامية من غير أن يقدموا تصوراً لانبثاقها وماكينزمات عملها في ظل هذه التشابكات التي تسود حياتنا المحلية والإقليمية والدولية في عالم اليوم،ومما يؤسف له أن الفرصة التي أتيحت للإسلاميين السودانيين لم تتح لغيرهم من المدارس الإسلامية على مدار التاريخ الإسلامي باستثناء شذراتٍٍ قليلة كانت القيادة الفكرية والسياسية فيها متحدة في يد مفكرٍ واحد أو إن شئت الدقة فقل في يد مدرسة فكرية واحدة مثل مدرسة ابن تومرت في دولة الموحدين ومهدي السودان في دولة المهدية ،،ونذكر في الختام بأننا زعمنا في صدر هذه المقالة وقلنا في الحلقة الأولى منها إن الاجتهاد والإبداع السياسي الإسلامي في باب الحكم والسياسة تخلف في العالم الإسلامي بسبب الكبت الفكري والهيمنة التي فرضها الساسة والأمراء على أهل الفكر والفقه والإبداع ،فيا ترى ما الذي أقعد العقل الإخواني الإسلامي السوداني عن الإبداع والاجتهاد بعد أن اتفقت له ثنائية الفكرة والسلطة،وما الذي أدى لاستقالته وهو الفقيه الأمير؟ إنها أسئلة مشروعة تبحث لنفسها عن إجابة.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،

خليفة السمري - المحامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق