الأحد، 11 أكتوبر 2009

الشيخ حسن الترابي بين رفض التقليد وغياب منهج التجديد!

بسم الله الرحمن الرحيم


الشيخ حسن الترابي - بين رفض التقليد وغياب منهج التجديد.

بقلم/ خليفة محمد الطيب السمري- المحامي

شاهدت حوراً على قناة الجزيرة أجري مع الشيخ الدكتور حسن الترابي في برنامج الشريعة والحياة –حلقة يوم الأحد 9مارس 2008م- وكان موضوع الحوار يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي،ولفت نظري خلال هذا الحوار غير المطول أن بعض إجابات الشيخ الترابي انطوت على شيء من عدم وضوح الرؤية خاصةً ما تعلق منها بسؤال المحاور له عن أصوله "منهجه" في الفتوى والتجديد،وما كنت لأهتم لذلك لولا أن المحاور في هذا البرنامج قدمه بوصفه مجدداً في الفقه وأصوله حين قال: (لكن ضيفنا تقدم خطوة إلى الأمام، فكان من أول من طالبوا بتجديد أصول الفقه وأصول الفقه هو المنهج والقواعد التي يتأسس عليها الفقه والفهم للدين)أ.هـ، ورأيت أن الشيخ الترابي قبل هذا الوصف وارتاح له وهذا ما حفزني إلى كشف قواعد أصول منهج التجديد عنده من خلال ما ذكره هو نفسه في ذلك الحوار.
وفي هذا المقال ليس من همي دراسة الشيخ حسن الترابي السياسي العنيد أو الشيخ حسن الترابي الإسلامي الحركي الفاعل ،فتلك حقائق لا تنكرها إلا عينٌ قذئة ولا يجحدها عليه إلا صاحب هوىً يجانب الحقيقة الموضوعية ،فالرجل ظل رقماً كبيراً يصعب تجاوزه في السياسة السودانية ولا يمكن تخطيه في الخطاب الحركي الإسلامي الفاعل على مستوى العالم الإسلامي،هذا حقه على الناس.
وإنما همي في هذا المقال أن أقارب شيئاً مما دار في الحوار الذي أجراه عثمان عثمان مع الدكتور الترابي في برنامج الشريعة والحياة فيما يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي،وغرضي من ذلك كما ذكرت سابقاً هو الكشف عن منهج الترابي في تجديد الفقه الإسلامي وفق ما ظهر لي من ذلك الحوار، ذلك أن الشيخ حسن الترابي أكد وجزم في هذه الحلقة بأنه لا ينتمي لا لمذاهب أهل السنة ولا لمذاهب الشيعة وهذا يستنبط منه أن الدكتور الترابي أراد من تصريحه هذا الإيعاز لنا بأنه صاحب مدرسة فقهية متفردة لها رؤيتها ومنهجها المستقل عن تلك المذاهب فهو يتفق معها في المصدر – الكتاب والسنة- ولكنه يخالف هذه المذاهب في كون أن له فهمه الخاص للقرآن والسنة وفي كون أن له منهج أداتي في أصول الفقه خاص به،وأن هذا المنهج هو عمدته في الأحكام والفتاوى الشرعية التي أفتى بها مؤخراً وأنكرها عليه كثيرون من فرط جدتها وغرابتها،فهل صحيح أن للدكتور الترابي منهج في أصول الفقه له مؤيداته الشرعية والنظرية "العقلية" التي تلتزم بالموضوعية العلمية على نحو يمكن معه إدراج الشيخ الترابي ضمن قائمة الفقهاء المجددين في الأصول أم أن الأمر غير ذلك ؟.
هذا ما أحاول الإجابة عليه في هذا المقال،وقد حفزني إلى ذلك أيضاً أن الشيخ الترابي نفسه أمّن - في الحوار الذي دار معه - على مبدأ أن الحقيقة في الإسلام ليست حكراً لأحد وأنه ليس في الإسلام رجال دين على النحو الموجود في المسيحية وهذه بلا شك وجهة نظر تسهم في إثراء الحوار وتشجع النقاش الموضوعي وتدفع بحركة الفكر الإسلامي وتجديد فقهه وأصوله إلى ما فيه خير هذه الأمة ونفعها.
وقبل محاولة الإجابة على السؤال السابق ذكره، فإنني استميح القارئ العذر في أن أورد توطئةًً موجزةً عن مفهوم الاجتهاد والتقليد الفقهيين لعل يكون فيها ما يعين على مقاربة موضوع هذا المقال فأقول - والله المستعان- : إن علماء المسلمين وضعوا أسساً وأصولاً لكافة ضروب الفكر الإسلامي،وعندما أقول أصولاً أقصد "القواعد الكلية التي تكون أساساً لفروعٍ كثيرة" فالأصل عندهم هو كل ما يستند إليه غيره ويبتنى عليه، فهم قد عرفوا للدين أصوله وللفقه أصوله وللفلسفة أصولها- بمعنى المنهج العام الذي يكون أساساً للبناء الكلامي أو الفقهي أو الفسلفي..إلخ -وهذا في ظني هو نفس ما أقرته "نظرية المعرفة الحديثة" التي لا تسبغ وصف "المعرفة" إلا على الدراسة الجادة المنظمة التي تلتزم منهجاً كلياً يحكم بناءها النظري بحيث تصب كل جزئيات الدراسة فيه،وميزة القواعد الكلية عند الأصوليين أنها تمثل العلامات الفارقة التي تميز بين فقيه وآخر وعن طريقها يمكن تحديد ما إذا كان الفقيه مقلداً أو مجددا.
وبناءً على ذلك فإن اللاحق من العلماء له أحد خيارين،فهو إما أن يقلد من سبقه ويلتزم بأصول منهج سلفه ومن ثم يبنى ويفرع عليها، وإما أن يتخذ لنفسه أصولاً ومنهجاً خاصاً به يقيم عليه بناءه وتفريعاته على النحو الذي يلبي طموحه و يشفي غليله ،فهو في الحالة الأولى يسمى مقلداً أو فقيه مذهب وفي الحالة الثانية يسمى مجتهداً أو صاحب مذهب لحال كونه أبدع لنفسه أصولاً خاصةً به لم يسبق إليها أو أنه سبق إليها لكنه طور فيها بالإضافة أو التعديل،وفي هذه الحالة الأخيرة يسمى مجتهداً وليس بصاحب مذهب لأنه استعان بأصول غيره وميزته أنه وسع في هذه الأصول وأضاف إليها ومن ثم يسمى من باب التجوز مجتهدا.
وفي هذا الصدد ننتقي بعض نماذج من التراث الإسلامي، فإذا أخذنا الإمام الشافعي مثالاً – وهو أول من ألف في أصول الفقه"كتابه الرسالة" – نجده قد وضع أصولاً لمذهبه كان من بين أدوات استنباط الأحكام فيها "القياس" الذي أورد بشأنه مبررات شرعية وعقلية أيَّد بها نقل حكم الأصل إلى الفرع إذا ما اشتركا في العلة وأقام على هذه الآلة التي تسمى "القياس" كثيراً من أحكامه الفرعية وأصبح بأصوله هذه صاحب مذهب، فلما جاء داوود الظاهري متأخراً عن الشافعي رفض تقليد كل السابقين عليه وأسس لنفسه منهجاً أصولياً أقام عليه بناءه الفقهي الفرعي كله وهو ما عرف بمنهج الظاهرية،وأول ما بدأ به لتأسيس هذا المنهج أنه أنكر القياس الذي قال به الشافعي وغيره وقدم مبررات من المعقول والمنقول على فساد القياس ،ثم جاء من بعده تلميذه ابن حزم وطور في هذا المذهب بأن قدم مؤيدات نظرية عقلية وأخرى من الشرع والمنقول أكد بها على فساد القياس،وبذلك أصبح داوود صاحب أصول متميزة عن أصول من سبقوه،وعلى الرغم من نظرة كثير من الناس إلى أصول الظاهرية على أنها تنطوي على شيء من الجمود والتحجر، إلا أن آخرين ومنهم -محمد عابد الجابري - رأوا في هذه الأصول أنها احتوت على ضروبٍ من الفن المبدع في تجديد أصول الأحكام الشرعية –أنظر فصل عن ابن حزم في كتاب نحن والتراث لمحمد عابد الجابري- ففي نظر هؤلاء أن فلسفة هذا المنهج أسست على رؤية خلاصتها أن النصوص الشرعية محدودة متناهية وأن الوقائع والحوادث لا تنتهي وهي في تجدد دائم وأن داوود وتلميذه ابن حزم كمجتهدين أرادا بتبني هذا المنهج توسيع دائرة المباح وإبقاء كل شيء على أصله ما لم ينقله عن هذا الأصل نصٌ ظاهر،ومن ثم فإن ابن حزم حين أفتى بجواز صلاح المرأة للولاية الكبرى فإنه إنما أسس حكمه هذا على أنه لم يجد في كتاب الله ولا في الحديث الشريف نصاً يمنع ذلك ومن ثم رأى أن يبقى الأمر على أصله وهو الإباحة وقال عن حديث (لا يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة ) أنه ليس فيه نهي ولا أمر وإنما هو مجرد وصفٌ لحال، وبالتزام هذه الأدوات التي ابتكرها جاءت كافة أحكامه الفرعية متناغمة مع المنهج الأصولي الذي أبتدعه داوود الظاهري وساهم هو في تأسيسه وبنائه،وأنت إن أردت نقد داوود الظاهري أو ابن حزم فإنك لا تحتاج إلى نقد فروع مذهبهما وإنما تنقد عندهما الأصول والكليات،ومن هنا تأتي أهمية القواعد الكلية لأن الجزئيات مبعثرة وهي في نفس الوقت غير محدودة،ومثل ابن حزم أيضاً الإمام الشاطبي المالكي مذهباً فهو لما نضج عوده ورأى أنه تمكن من العلم الشرعي وسع في أصول مالك بإبداعه وسائل وأدوات في أصول الفقه وسع بها دائرة مقاصد الشريعة،وقدم على الأدوات التي توسل بها إلى هذا التوسع أدلة نظرية عقلية وأخرى نقلية شرعية- ليس هذا محل بحثها أو الحديث عنها- ومع كل هذا الإبداع فإن كثيراً من الأصوليين ترددوا في وصفه بالمجدد،والمنصفين منهم وصفوه بأنه مجتهد على أًصول مالك والمجتهد الذي يتوسع في أصول غيره قطعاً هو أرفع في الدرجة المعرفية من المقلد،ونموذج آخر من السلف كان حنبلياً مقلدا هو نجم الدين الطوفي فهو لما أحس أن عوده قد نضج وأن فكره استوى وتفتحت قريحته ترك التقليد واستقل بمنهج شيد بناءه على تخصيص النص بالمصلحة وحشد هو الآخر لهذا المنهج أدلة نظرية وأخرى شرعية نقلية فأصبح بذلك صاحب مدرسة متميزة عن مدارس الآخرين، وبسبب عقلانيته وتفرده هذا اتهمه بعض الحنابلة بالاعتزال. ونموذج من المعاصرين الذين فعلوا نفس الشيء وتركوا التقليد واستقلوا بأصول خاصة بهم محمود محمد طه "في السودان" فهو حين رفض التقليد أقام لنفسه منهجاً في الأصول سماه الرسالة "الثانية من الإسلام" ، وبغض النظر عن قول الناس في صحة هذا المنهج أو عدم صحته- فهذا ليس من همنا في هذا المقال- فإن الرجل قسَّم القرآن في أصوله إلى قرآن أصول "القرآن المكي" وقرآن فروع " القرآن المدني" وقال بنسخ الأول للثاني بشروطٍ وضحها وبينها في رسالته، وقدم على أصوله هذه أدلة نظرية وأخرى نقلية -ليس هذا مجال بحثها ونقاشها- وفتح بذلك المجال واسعاً أمام العقل وأصبح صاحب مدرسة ومذهب مميز اندرجت فروعه كلها تحت أصل واحد،ومن ثم جاء بناؤه في فهم الفقه والدين متناغماً حال كونه بناه كله على أصول كلية موحدة أوردها في كتابه "الرسالة الثانية من الإسلام"،فأنت أيضاً إن أردت نقده فإنما تكفيك مناقشة أصوله عن تتبع فروعه فكما ذكرنا سابقاً أن الفروع غير محدودة وتتبعها بالنقد صعبٌ جداً من الناحية العلمية الموضوعية،والأصل أن بحثها ينحصر في نطاق مدى اتفاقها مع أصول من قال بها أو عدم اتفاقها.من هنا تأتي أهمية القواعد الكلية لكون أن من ليس له أصول وقواعد كلية لا يصح وصفه بالفقيه المجدد،فهو في حقيقته يظل مقلدا وإن تظاهر بالإبداع والجدة ما دام أنه خالي الوفاض من أصول ينفرد بها وحده.
وإذا ذهبت تلقاء المتكلمين وجدتهم هم أيضاً قد تمايزوا بمناهج وأصول مختلفة فالأشعري أسس بنيانه الكلامي على يقينيات تناقض المنطق العقلي من مثل نظرية الكسب وابن عطاء المعتزلي أسس بنيانه على تقديم العقل بتأويله النص تأويلاً لغوياً "المجاز"إذا ما جاء في ظاهر عبارته معارضاً لما يقتضيه العقل،ووضع لبنات الأصول الخمسة المشهورة عن المعتزلة عند المشتغلين بالكلام،"علم الإلوهية والتوحيد"،والصوفية هم الآخرون اتخذوا لأنفسهم منهج كلام أسسوه على الزوج ظاهر وباطن،واعتمدوا التأويل العرفاني والعلم اللدني الذي وسيلته عندهم التقوى فكان ذلك أصلا لهم به يعرفون ويتمايزون به عن غيرهم من المتكلمين ،وقد نحى هذا النحو غيرهم ممن اشتغلوا بهذا العلم ،فكان لكل مدرسة أصولها وقواعدها التي تميز بينها وبين الآخرين،فالذي لا يملك أصولاً فهو مهما كانت درجة إبداعه فإنهم لا يرون فيه سوى أنه مقلد يستند إلى القواعد الكلية لمن سبقوا عليه أو عاصروه.
أما الرأي عندي في التقليد،أنه في حد ذاته ليس سبة ولا هو بالعيب، ووجه الحسن فيه،أنه فيه إقرار بفضل الآخرين،وفيه اعتراف بإبداعهم وعبقريتهم، فمحمد ابن الحسن الشيباني على عظمته وأبو يوسف على عبقريته فهما من مقلدي أبوحنيفة النعمان وإن خالفا شيخهما في بعض التفاصيل،وتبعهم في التفريع على أصول أبوحنيفة علماء أفذاذ مثل السرخسي والكاساني ملك العلماء "صاحب البدائع" فأبدعا أيما إبداع،وسحنون وابن القاسم وابن عبد البر على فطنتهم وذكائهم فهم يوصفون بأنهم من مقلدي مالك المفرعين على أصوله وما نقص ذلك من فضلهم ولا حط من مكانتهم العلمية المرموقة شيئاً،وابن قدامة على غزارة علمه فهو مقلد وفقيه مذهب على أصول الإمام أحمد،والنووى صاحب المجموع مع كل نبوغه فهو الآخر مقلد وفقيه مذهب على أصول الشافعي وهكذا غالبية فقهاء المسلمين الذين أثروا التراث الإسلامي بالتفريع على أصول من سبقوهم.وبعضٌ منهم ألف كتباً جمعت بين أراء مذاهب عديدة "الفقه المقارن" ويقف شاهداً على ذلك كتاب بداية المجتهد لابن رشد الحفيد واستذكار ابن عبد البر ومغني ابن قدامة الأمر الذي ينفي ما يؤخذ على التقليد من أنه يؤدي إلى الجمود والتعصب.
وإذا ذهبت على هذا النحو إلى المتكلمين –المشتغلين بعلم الإلوهية والتوحيد– فإن القاضي عبد الجبار والجاحظ على رغم العبقرية وفرط الذكاء العقلي لا يعدوان أن يكونا من مقلدي ابن عطاء المعتزلي، والغزالي على عظمته فإنه في باب الكلام لم يتجاوز ما قال به أبو الحسن الأشعري ،فالتقليد كما ذكرت سابقاً ليس بعيب في حد ذاته -بل هو حسن متى ما عرف الفقيه من أين أخذ صاحبه -وإنما العيب يكمن في التعصب إلى المذهب،مثل ذلك الذي ضرب بأطنابه في العصور المتأخرة حتى أن الأزهر الشريف كان يصلي فيه بالناس أربعة أئمة كل واحد منهم على مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة،وبلغ بالناس الانكفاء إلى المذهب حداً جعل أبا محموداً الكرخي الحنفي مذهباً يقول " كل خبرٍ خالف ما عليه صاحبنا فهو رد" –يقصد أبا حنيفة-،هذا هو العيب أن تكون متعصباً،أما أن تقلد غيرك وتبني على أصوله فذلك فيه إقرار بفضل الآخرين وعلمهم،ولا يقر بالفضل لأولي الفضل إلا أولو الفضل.
هذه التوطئة قد تكون أبعدتنا شيئاً ما عن موضوع هذا المقال فعفواً واعتذارا عن هذا الاستطراد، ووصلاً للموضوع وبناءً على هذه التوطئة أعود لأسال مع مقدم برنامج الشريعة والحياة –عثمان عثمان – عن منهج الأصول الذي بنى عليه الشيخ الترابي فتاواه الأخيرة بعد أن أنف عن تقليد من سبقوه من فقهاء الإسلام وبعد أن نفى عن نفسه الانتماء إلى مذاهب أهل السنة ومذاهب الشيعة معاً؟.فهل للرجل أصولاً معتبرة تجعله يعتد بنفسه إلى درجة التأفف عن التقليد؟ وهل هو بالحق يملك أدوات لاستنباط الأحكام الشرعية تمكن من تصنيفه بين قائمة المجددين المبدعين في الأصول من فقهاء الإسلام من مثل الشاطبي والطوفي أم أن الأمر غير ذلك؟
إجابةً على تلك الأسئلة الحق أقول إنني لم أجد فيما أطلعت عليه من مؤلفات الشيخ الدكتور حسن الترابي ما يفيد أن له أصولاً وقواعد كلية تصلح أن تكون أساساً لمنهج فقهي يوصف صاحبه بالمجدد،وبما أن شهادتي قد تكون مجروحة – حال كوني في موضع الناقد – فإنني أقول إن الشيخ حسن الترابي كفى الناس مؤونة البحث في كتبه وآثاره بإجابته على أسئلة محاور "الجزيرة" عثمان عثمان،فهو حين سأله عن منهجه في التجديد جاءت إجابته –أي الشيخ الترابي- كلاماً عاماً لم يحدد فيه الوسائل والأدوات التي توسل بها إلى التجديد المزعوم،ذلك أننا كنا نتوقع أن يجيب الرجل بمثل ما أجاب به فقهاء الأصول الذين أوردنا بعضاً منهم كنماذج في صدر هذا المقال إذ قال كل واحدٍ منهم هذه هي أصولي مفصلةً وها أقرءوا كتابيا،ولكي نكون أكثر أمانة فيما قلنا عن إجابة الترابي التي انتهينا من خلاصتها إلى أنه ليس له أصول تضعه بين المجددين فإننا ننقل نصها بلا تصرف كما يلي: (عثمان عثمان (مقاطعا): أين أصالة التجديد عند الترابي؟حسن الترابي: أصالة التجديد أصلا في الدين. يعني كان الأنبياء يأتون نبيا بعد نبي يصدق أصول الذي سبقه من قبل{..لما بين يديه من الكتاب..}[المائدة:48] ولكنه يبشر برسول يأتي من بعده، حتى يذكر الناس أن التاريخ مع حركة الحياة وتجدد الظروف والابتلاءات التي يقلبها الله سبحانه وتعالى لا بد من أن يتجدد، القيم تبقى ولكن تتنزل وتتجلى بصور مختلفة. جاء النبي الخاتم بعد ذلك، "ما من نبي من بعدي"، وبعد ذلك بقي على المسلمين أن يأخذوا القرآن الذي خاطب خطابه الأول الأمة تلك وأخرج لنا كل النموذج سنة الله المهدية بالقرآن والمتجلية كذلك ببيانها في سنة المؤمنين جملة المؤمنين يقودهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك لا بد في كل حين يأتي.. المجتمعات تجدد نفسها أبدا حتى تحفظ القيم، لكن إذا جمدتها القيمة بعد ذلك ستظل صورة ثابتة ولكن أصل القيمة ومغزاها سيموت، قد يموت وقد يتبدل)أ.هـ "المصدر-الجزيرة نت".
ألا تلاحظون معي أن السائل سأل الترابي عن أصوله التي يستند إليها في التجديد، وبدلاً من أن يحدد الشيخ الترابي أصوله تحديداً مفصلاً واضح المعالم ذهب الرجل يحدثنا عن مفهوم التجديد نفسه! وكيف أن الأنبياء كان كل واحد منهم يأتي مصدقاً لأصول من سبقه إلى آخر كلامه، أليس في ذلك دلالة على أن الرجل لا يملك أدوات في أصول الفقه تمكن من تصنفيه بين قائمة المجددين؟،وإذا كانت له أصول على النحو الذي يحاول الإيحاء به فلماذا لم يوردها ويوضحها وهو الذي ظل منذ بداية السبعينات يردد ويكرر في كل مناسبة دعوته لتجديد أصول الفقه الإسلامي؟ لا شك أنه لو كانت الأمانة العلمية حاضرة لقال الشيخ الترابي إني لا أملك أي أدوات في أصول الفقه الذي ظللت أطالب دوماً بتجديده،إن دعوتي للتجديد مجرد كلام والسلام!.مثل هذه الإجابة هي فقط التي تعطيه مشروعيه التعريف بالتجديد وأصالته وإيضاح مفهومه للناس،خاصةً وأن السائل لم يطلب منه وضع تعريف لتجديد أصول الفقه الإسلامي.فالشيخ الترابي سئل في جزئية محددة لكن للأسف جاءت إجابته في ناحية أخرى لم يسأل عنها أصلا،وإني لأعتقد جازماً أنه لو كانت في جعبة الشيخ الترابي أصولاً في تجديد الفقه هو صانعها ومبدعها لما ادخر الحديث عنها إلى يوم غد،خاصةً وأنه سئل عنها سؤالاً مباشراً لكنه التف في إجابته على نحو ما رأينا سابقاً.
نموذج آخر نورده من حوار برنامج "الشريعة والحياة" للتدليل على أن الشيخ الترابي لا يملك أصولاً في تجديد الفقه ولكنه لا يعدو أن يكون من المتظاهرين بالتجديد المتأففين من أن تلحق بهم "سبة" التقليد، فهو –أي الدكتور الترابي- حين سأله عثمان عثمان عن الأصول التي بنى عليها فتاواه الأخيرة فإن الرجل –من حيث يدري أو لا يدري- لم يدخر وسعاً في إجابته على تأكيد أنه مقلد على الرغم من تظاهره بالتجديد،وللبرهان على ما زعمت أورد سؤال مقدم برنامج الشريعة والحياة له عن الأصول التي بنى عليها فتاواه الأخيرة وإجابة الشيــخ الترابي عليه،وللأمــــانة أنـقل ذلك بلا تصـــرف: {عثمان عثمان (مقاطعا): دكتور يعني هذه الفتاوى والآراء..حسن الترابي (مقاطعا): سمها الآراء.عثمان عثمان (متابعا): يعني هل تتصل بالمنهج التجديدي للترابي؟ والسؤال الآخر ما هي الأصول التي تستند إليها؟حسن الترابي: طبعا، أنا أولا حفظت القرآن الحمد لله بقراءات من في السجن الحمد لله، في خلوة يوسف عليه السلام مثل خلوة يوسف، وما حفظته كذا نصا كما يحفظه الناس في.. ويتلونه هكذا، يعني بدأت أقرأ كل التفاسير الذين يعنون باللغة والذين يعنون بالكلاميات والذين يعنون بالأحكام والذين يعنون بالأثريات وكلهم وأنا أكتب الآن محاولة تفسير القرآن إن شاء الله يعني، وقرأت كتب الحديث وكتب الفقه وأنا لست متعصبا أصلا، أنا.. السودان مذهبه المالكية ولكن أنا قرأت المالكية من أول الطريق ولكن قرأت الشافعية وقرأت الحنفية والحنفية دخلت علينا، وأنا لست بشيعي ولا سني، أنا لست بطائفي، أقرأ كتب الشيعة الأساسية آخذ منها ما آخذ وأدع ما أدع، ولا أسمي الإباضية خوارج كما يسميهم الناس كأنهم خرجوا من أفق الدين، ولكن أقرأ كتبهم. وهذا لا يعني أنني فقط أرهن نفسي للماضي ولكن أستعين بما بنى قبلي لو أحدث سلفي ثروة أنا أبني عليها ولأنميها ولأزكيها، لو أحدثوا قبلي ثروة فقهية أنا أبني عليها، بعض آرائهم قد تكون أنسب إلى وقتهم دون زماني، بعضها قد يكون في سياق الزمان تبين لي لو عاشوا معي اليوم لرأوا غير الذي رأوا، أراها خطأ من أول يوم وهكذا، وأنا أود أن أعطي شيئا حتى يعني يوم القيامة آتي بشيء أؤجر به عند الله يا أخي، {تلك أمة قد خلت ..}[البقرة:134]، نحن لا يمكن أن نكون في ديننا عالة على غيرنا يعني، نحن يوم القيامة نسأل أفرادا. فهذه محاولات وبعدين أنا طبعا لأنه في حركة إسلام، أنا أشتغل مع الفنانين يا أخي الكريم لأنه هم يرون أنهم يسألون هل هذا حرام، هل هذا حرام؟ لأنهم يرون أن الدين هذا يقف لك بالمرصاد، هذا حرام، يا لطيف، حرام. لكن أريده أن.. بما يفعلون، بما يسر لهم الله في أصواتهم وفيما وهبوا من قدرة على الإيقاعات والنغم أن يدخلوا الجنة يا أخي عبادة لله، والرياضيين يا أخي أتكلم معهم والسياسيين والتجار والحكام والمصلين أقول لهم صلاتكم هذه ليست إلا صورا يا أخواننا، يعني هذه الأفعال لم تفعلونها؟ يعني من قبل قديم الزمان الغزالي قال كل هذا الفقه فقه الظاهر وليس بفقه آخرة، لأنه ترفع يديك إلى أذنيك وتفعل كذا وتحرك أصبعك، الإنسان لا يفهم ماذا يفعل يتحرك كالحيوان ويؤشر بغير معنى} أ.هـ.-المصدر- الجزيرة نت.
ذكر الشيخ الترابي في إجابته حين سئل عن أصول فقهه التجديدي -الأصول الكلية- أنه حفظ القرآن وقرأ التفاسير وكتب المتكلمين وأنه قرأ كتب المالكية والشافعية والأحناف...إلخ،فبالله عليك هل هذا يميز الشيخ حسن الترابي المجدد عن الفكي "الفقيه" مضوي ود اللخمي أو والده الشيخ عبد الله الترابي أو الشيخ محمد مالك القاضي بشيء؟،فهؤلاء هم الآخرون حفظوا القرآن وقرءوا الحديث الشريف وتفقهوا على المذهب المالكي،لكن فضيلتهم أنهم أقروا بأنهم مقلدة ولم ينسبوا إلى أنفسهم أوصافاً لا توافق أحوالهم.وإذا كان الشيخ الترابي كما ذكر يأخذ من كل مذهب ما يناسب الواقع فإن ذلك لا يخرجه من حال كونه مقلدا،مع أنه حين سئل عن فتاواه في أكثر من مناسبة لم يقل بأنه أفتاها على أصول الشافعي أو أبي حنيفة أو أصول ابن حزم..إلخ وإنما كان دائماً ينسب هذه الفتاوى إلى نفسه وإلى منهجه الخاص،فهو حين سئل عن الأصول التي بناها عليها جاءت إجابته على النحو الذي أوردناه فيما سبق وهي إجابة لا تخرجه بأية حالٍ من الأحوال عن دائرة المقلدين، ولا تؤهله للتأفف عن التقليد الذي يرفضه لفظياً ويتبناه واقعاً وعملاً،ولا شك أن المناداة بالتجديد أمرٌ طيب،أما أن تهدم بدون أن تقدم البديل الجديد المؤيد بالنقل والعقل فذلك ما لا يقبله أهل العقول،وكم مرة سمعت الدكتور عبد الله العجلان يقول بصدد الذين يرفضون المناهج التربوية التقليدية وينادون بتأسيس العملية التربوية على الفهم والإبداع من غير أن يبدعوا وسائل عملية لتنزيل دعواهم المتعالمة هذه إلى واقع الممارسة،كم سمعته يقول : (ما أسهل الهدم والنقض والتخريب وما أصعب التشييد والبناء فأنت تستطيع أن تدك عمارة شامخة في سويعات لكنك لن تستطيع بناء مثلها في أعوام)،لذا فإننا ننشد الدكتور الترابي أن يقدم لنا بناءه وقواعده العملية في تجديد أصول الفقه قبل التأفف من التقليد،ويوم أن يقدم أصولاً يؤيدها المنقول والمعقول فإننا سنقبل دعواه هذه،أما وهو خالي الوفاض منها،فإنه لن يقنع من أهل العلم أحداً بمنهجه العنقائي الذي ينادي به،وهو منهج في رأينا لم يخرج عن حيز المزاجية والانتقائية والترقيع لأنه كما ذكرنا لا يستند إلى أصول وقواعد عامة تكون أساساً لجزئياته وفرعياته. وإذا دلفنا إلى بعض فتاواه الأخيرة لنقرأها بموضوعية فهي لا تخرج عن حالين،فهي إما أن تكون مبنية على أصول غيره –مع خطأ في تطبيق بعضها – وهو في هذه الحالة لا يخرج عن حال كونه مقلداً،وإما أنها لا تستند إلى قواعد أصول موحدة وهو في هذه الحالة لا يعدو أن يكون انتقائياً مرقعا،ونورد نموذجا على الحالة الأولى فتواه التي أجاز فيها زواج المسلمة من الكتابي فهو لما حوصر وسئل عن أساس هذه الفتوى قال إنه نظر في كتاب الله فلم يجد فيه نصاً يحرم ذلك أو يمنعه،وإذا سلمنا جدلاً بزعمه هذا فإننا نقول له إن هذه الفتوى تدل على أنك مقلد على الرغم من تأففك من التقليد،وحين سئلت عن أساسها لم تقل بأنك ظاهري ترفض القياس وتأخذ بأصول داوود وابن حزم وإنما نسبت الأمر إلى نفسك مع أنهم سبقوك في توسيع دائرة االمباح بوسيلة رفض القياس والوقوف على ظاهر النص-على رأي الجابري-،ووجه العجب فيما ذكرنا أن الشيخ الترابي مع أخذه في هذه الفتوى بأصول الظاهرية من غير أن يقر بتقليدهم إلا أنه وللأسف حتى أصولهم هذه لم يستطع تطبيقها بوجهٍ صحيح،فالظاهرية يقولون بظاهر النص وبمفهوم المخالفة الذي يستنبط من ظاهر النص،فهم مثلاً حين قال بعضهم بجواز زواج الربيبة غير ذات الحجر "التي لا تقيم مع بعل أمها" –طبعاً في حالة وفاة أمها- فإنهم بنوا ذلك على مفهوم المخالفة المستنبط من القيد الوارد في ظاهر النص القرآني (.....وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم)الآية 23 النساء،فخلصوا إلى أنه بما أن ظاهر هذا النص قيد التحريم بالإقامة في حجر بعل الأم،فمفهوم المخالفة المأخوذ منه هو حِلُ الزواج من الربيبة التي لا تقيم ولم تقم في يومٍ ما في بيت بعل أمها، فالشيخ الترابي حين نظر في القرآن الكريم لم يجد نصاً يحرم زواج المسلمة من الكتابي -كما زعم- لكنه وجد نصاً يحل زواج المسلم من الكتابية وليس في ذلك – حسب رأيه -دلالة على تحريم زواج المسلمة من الكتابي،لأن الأمر يظل على أصل الإباحة –وهذه هي قواعد الظاهرية لا قواعد الشيخ الترابي المجدد كما ذكرنا سابقاً- لكنه في رأينا أخطأ في تطبيق هذه القواعد حين قال بحل زواج المسلمة من الكتابي فظاهر النص يقول ( ...والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ..)الآية 5 المائدة - أي أنهن حلٌ لكم مثل طعام أهل الكتاب- وظاهر النص القرآني أيضاً نظر في ضابط التحريم في الزواج إلى ناحية الذكر ومنها انطلق إلى تحديد من هن حراٌم عليه نكاحهن،فقال تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ...)الآية 23النساء،ولم ينظر في ضابط التحريم إلى ناحية الأنثى فلم يقل سبحانه حرم عليكن آباؤكن وإخوانك...إلخ،وظاهر النص أيضاً في قوله سبحانه وتعالى (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حلٌ لهم ولا هم يحلون لهن..)الآية10 الممتحنة،ظاهر هذا النص هو الآخر يؤكد حرمة زواج المسلمة من الكتابي لأن لفظ الكفار يدخل فيه أهل الكتاب بإجماع هذه الأمة،فالكفر لغة هو التغطية واصطلاحاً هو جحود رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعم من الشرك ويدخل فيه الكتابي والمشرك معاً بإجماع علماء الشريعة،نورد ذلك لأن الشيخ الترابي زعم أن ظاهر القرآن يحرم زواج المسلمة من المشرك وليس الكتابي وأحتج بقوله سبحانه وتعالى (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا.)211البقرة، وكأن ظاهر قوله تعالى (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)الآية 10 الممتحنة، كأن ظاهر هذه الآية ليس من القرآن،فإذا كان الله سبحانه وتعالى أمرنا بعدم إرجاع المؤمنات إلى الكفار الذين عقدوا عليهن الزواج قبل إسلامهن فمن باب أولى تحريم تزويج الكافر "كتابياً كان أو مشركاً" ممن ولدت على دين الإسلام.هذا الذي ذكرناه يؤكد أن الشيخ الترابي عجز حتى من أن يكون مقلداً مبدعاً بحيث ينزل الوقائع على قواعد أصول من سبقوه ،فكيف نصدق بعد كل ذلك زعمه بأن بغيته وغايته التي يعمل من أجلها هي تجديد أصول الفقه الإسلامي،وأن له منهجاً خاصاً به يندرج في باب هذا العلم الجليل. أما فتاواه الانتقائية المزاجية فأنا أجد نموذج لها في تنظيره السياسي عن الدولة والدستور فالرجل ظل إلى يومنا هذا ينادي بالديمقراطية –ودولتها بالضرورة تؤسس على القومية والمواطنة-لكنه في نفس الوقت لم ينفك ينادي بالدولة الإسلامية المؤسسة على الشريعة والدين من غير أن يحدثنا عن قواعد الأصول في منهجه التجديدي التي رفع بها التناقض بين الدولة الإسلامية المؤسسة على دين واحد ورؤية فلسفية شاملة لكل ضروب الحياة تختلف تماماً عن نظيرتها في الطرف الآخر –أي الدولة القومية التي أبدعها الغرب وفرضها على كل العالم عن طريق الاستعمار- وهي كيانٌ كما هو معروف يقوم أساسه على تجمع بين أطياف من البشر لا يوحدهم الدين وإنما الذي يوحدهم أرض وحدود جغرافية سماها الغربيون "الدولة القومية" التي لا تنفي الدين عن الحياة –حسب قولهم- وإنما تبعده عن النطاق السياسي.كيف وفق الدكتور الترابي في فقهه وفكره بين هذه النقائض،لا شك أن الجمع بين هذه النقائض لا يولد إلا التناقضات،وهذا نلحظه في دستور 1998م الذي أشرف عليه الشيخ الترابي ومهره بتوقيع يده بوصفه رئيساً للمجلس الوطني السوداني "البرلمان"،فهذا الدستور جاء سملاً مرقعاً لا هو بالإسلامي ولا هو بالعلماني بل مزاجٌ بينهما يضرب النصوص الشرعية في مقتل،ومع ذلك لم يقل لنا الدكتور الترابي عن قواعد الأصول التجديدية التي ابتكرها في فقهه السياسي هذا الذي ألف فيه بين المتنافرات،وقد كنا نأمل أن نجد الإجابة في كتابه الأخير النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع،لكن للأسف لم أجد فيه إي أصول وقواعد جامعة وهذا ليس كلامي وحدي،فقد وصف المفكر الإسلامي والباحث في التاريخ الإسلامي البروفيسور محمد أركون الكتاب المذكور بأنه لا يقوم على منهج علمي حين قال في مناقشته للكتاب بمشاركة الشيخ راشد الغنوشي في برنامج "الكتاب خير جليس" : ( نعم لا يحق لكاتب وكاتب مفكر أن يستعمل اصطلاحاً واحداً دون أن يمعن النظر في تاريخ استعمال هذا المصطلح أولاً،لذلك أكرر أن أساس أي تفكير سياسي يجب أن يكون على التاريخ المحقق لكل اصطلاح يستعمل،هذا الكتاب نجد فيه كما ذكرت أمثال كثيرة،مصطلحات عديدة،مرة تحيله إلى المعجم القرآني،مرة إلى معجم الفقهاء،مرة إلى المعجم الغربي دون أن يحقق بأي معنى ينتمي إلى الغرب ،يعني اختلاط كبير اختلاط كبير ..فوضى ..هذه فوضى مفهومية)أ.هـ.-المصدر الجزيرة نت.
وإذا أنت ذهبت تقارن بين الترابي وبين مفكر إسلامي أًتخذ لنفسه منهجاً التزم فيه أصول من سبقوه مثل الشيخ أبو الأعلى المودودي يرحمه الله تجد عند هذا الأخير التناغم والوحدة الموضوعية في الطرح الفكري بينما تجد عند الأول الأشتات التي لا يربطها رابط،وخذ على ذلك مثلاً تنظير الشيخ أبو الأعلى المودودي في الدولة والدستور،فالرجل رفض الدولة القومية الديمقراطية لأن مبادئها وأسسها في نظره لا تقوم أصلاً على أحكام الدين،ونادى بدولة الحاكمية التي تكون السيادة فيها للمسلمين لا لشعب السودان المستخلف وفق ما جاء في نص دستور جمهورية السودان الذي يعلم منظره الشيخ الترابي أن فيه –أي شعب السودان - المسلم وفيه المسيحي وفيه اللاديني وهم لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يدخلوا في دائرة نظرية الاستخلاف الإسلامية بنص الآية ( وعد الله الذين أمنوا منكم ليستخلفنهم في الأرض..)،وننقل في هذا الصدد كلاماً للمفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي يوضح موقفه من الدولة القومية التي يحاول الترابي التأصيل لها ولديمقراطيتها وممازجتها بالشورى إلى الدرجة التي يعطي فيها إجماع الشعب قوة تشريعية تستطيع إلغاء أحكام الشريعة من الناحية النظرية على الأقل،فلنسمع ماذا يقول أبو الأعلى المودودي في كتابه نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور ( ومن الناس من يقول بتأسيس دولة قومية للمسلمين ولو غير مستندة إلى قواعد الشريعة الغراء،يقولون به ويدعون إليه ويغتنمون هذه الفكرة في المرحلة الأولى،ويزعمون أنه إذا تم لهم تأسيس دولة قومية يمكن تحويلها تدريجاً فيما بعد إلى دولة إسلامية بوسائل التعليم والتربية وبفضل الإصلاح الخلقي والاجتماعي،ولكن شهادات التاريخ والسياسة وعلوم العمران تفند مثل هذه المزاعم وإن نجح مشروعهم فلا شك يكون معجزة.....فليت شعري كيف يمكن أن تكون دولة قومية مؤسسة على طراز الديمقراطية عوناً ومساعداً في استكمال هذا الإصلاح السياسي وانجاز مهمته)، فهذا الرجل اعتمد على أصول واضحة في فقه الشريعة من مثل حصر الشورى في المسلمين وحدهم بنص الآية،وعدم ولاية غير المسلم على المسلمين ..إلخ القواعد الفقهية المعروفة عند السلف والتي فصلها من كتبوا عن الأحكام السلطانية،ونحن حين نقول مرحباً بالتجديد الذي ينادي به الشيخ الترابي فإن من حقنا عليه أن يكشف ويفصح لنا عن قواعده في تجديد أصول الفقه الإسلامي التي استطاع بها ردم الهوة القائمة بين دولة المواطنة الديمقراطية وبين أحكام الدين التي جاءت شاملة لكل ضروب الحياة الإنسانية وإلا فإنه من حق الآخرين أن يتهموه بالانتقائية والمزاحية في كل فقهه هذا.
وختاماً أقول إن غياب أصول الفقه الجامعة وغياب القواعد الكلية في منهج الشيخ الترابي (المجدد)،تجعل دراسته صعبةٌ عسرة،فمن يريد تتبع أعماله بالنقد سيشقى كثيراً،بسبب أنه لن يجد للشيخ الترابي أصولاً جامعة وبناءً تقعيدياً موحداً بحيث تكون دراسته مجزية عن الخوض في الفروع والأجزاء،فالذي يدرس الشيخ الترابي سيجد نفسه مضطراً إلى تتبع جزئياته وفروعه ليؤصل كل فرع على حدة،وهذا أمرٌ فيه من الصعوبة ما لا يخفى ،إذا ما قورن بيسر دراسة الفقهاء الذين لهم أصول واضحة ومحددة.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق