الخميس، 17 فبراير 2011

طبائع الاستبداد ومصرع البلاد


في كتابه «طبائع الاستبداد» شخص الكواكبي عليه رحمة الله داء الاستبداد السياسي ووصف لنا أقبح أنواعه، استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل، ولفت نظرنا إلى أن المستبد فردٌ عاجز لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، أو كما قال، ونبهنا إلى أن الاستبداد أصلٌ لكل فساد، وأن دواؤه لا يكون إلا بالشورى الدستورية، ولم يقف بنا عليه رحمة الله فقط في القمة، بل تدرج منحدراً بنا إلى أصول الاستبداد في أدنى مراتبه، فقال لنا «الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرا ، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنفٍ إلا من أسفل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، وإنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍ كانت، ولو بشر أم خنازير، آباؤهم أم أعداؤهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيدٍ من الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً»، أو كما قال، فهذه على رأي الكواكبي يرحمه الله بعضٌ من صفات المستبد والدولة المستبدة.
وكم كنا نأمل أن يأتي استبداد قيادتنا السياسية شمالاً وجنوباً على نحو الاستبداد الإيجابي الذي عناه أمير العاشقين عمر ابن أبي ربيعة حين قال:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد ٭٭ وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرةً واحدةً ٭٭ إنما العاجز من لا يستبد
أي من لا يحزم أمره وينفذ وعده بلا تردد، أو أن يكون على الأقل من جنس الاستبداد العادل أو «المستبد العادل» الذي عناه الإمام محمد عبده في تخريجاته ليوتوبيا أفلاطون والفارابي ومدنهما الفاضلة وتطلعهما إلى أن يكون الحاكم فيلسوفاً عادلاً مطلق التصرف، لكنه يعرف أسرار الحكمة ويجيد وزن الأمور ووضعها في نصابها، كنا نمني النفس بذلك، مع أن الحقيقة التي لا معدى عنها، أنه لا حكمة مع استبداد، ولا عدل مع طغيان، مهما تعاظمت بنا الأحلام واستبدت بنا الأماني العِذاب.
إن بلاد السودان وأهل السودان حصدوا ثمرة الاستبداد والانفراد بالرأي والسلطة شمالاً وجنوباً، حصدوا ثمرة ذلك حصرماً لم يقووا على ازدراده، وتعبوا وتعبت عيرهم حتى أنها ما عادت تقوى على تحمل مزيدٍ من العبث بإرادتهم، فها هي الحركة الشعبية ما عادت تحفل لخيار الناخب الجنوبي، ولا تقيم وزناً للعهد الذي قطعته على نفسها بالتزام الحياد في ما يخص قضية الوحدة والانفصال، فقد طالعتنا صحيفة «الصحافة» بتصرحيات السيدة آن إيتو نائبة أمين عام الحركة الشعبية ودعمها علناً للانفصال، وتبريرها لذلك بقولها «لأنه لم يتم العمل على جعل خيار وحدة البلاد جذاباً فإننا ندعم خيار الشعب، لأننا نتابع إرادة الشعب». واردفت القول: «إن كانت لديكم آذان تصغى فإنكم تعرفون أن أكثر من 90% من الأهالي أعلنوا خيارهم، وأن الوحدة ليست قابلة للتحقيق، خصوصاً مع إدارك الحركة الشعبية أنه لم يتم العمل على جعلها جذابة من قبل الحكومة السودانية». وتناست السيدة إيتو بذلك، أنها في نشوة الانفراد بالرأي ومقارفة الاستبداد الذي تدير نشوته الروؤس، تناست أنها بذلك قد نقضت عهداً وقعته يداها، التزمت فيه بألا تدعو بوصفها الرسمي لا للوحدة ولا للانفصال، بل يقع على عاتقها ــ وفق نيفاشا ــ أن تعمل من موقعها الرسمي على توفير كل ما يجعل الوحدة جاذبة، ولتعلم السيدة إيتو أنه إن كان الجنوبيون في الماضي قد شكوا كثيراً من نقض العهود، فها هي تقارف ذات الفعل المسترذل، وفي عقيدتي أنه ما حفزها إلى هذه الدعوة إلا انفراد تنظيمها بأمر الجنوب عسفاً واستبداداً، فالحاكم المطلق عادةً ما يورد أهله سبيل التهلكة عندما تدير رأسه نشوة التسلط والاستبداد، فلا يُري الشعب إلا ما يرى، فبتأثير هذه النشوة استبقت السيدة إيتو الاستفتاء وقررت أن إرادة شعب الجنوب مع الانفصال، ونسيت أيضاً في ظل نشوة الاستبداد بالرأي أن تنظيمها صاحب نصيب مقدر في الحكومة التي حملتها مسؤولية الاخفاق في ما يخص جاذبية الوحدة، وهذا أمرٌ كان الأجدر أن تعلن معه فشلها في ما التزمت به من العمل على توفير شرائط الوحدة، ولو كان الأمر أمر ديمقراطية تحترم إرادة أهل الجنوب كما تزعم لبادرت بالاعتذار عن هذا الفشل، مع التعبير عن الأسف عملياً بالاستقالة.
إن دعوة السيدة آن إيتو للانفصال على هذا النحو الذي تنقصه الكياسة، يبرر لطرف الاستبداد الآخر «المؤتمر الوطني» التحلل من نيفاشا وبروتكولاتها التي ما حصدنا منها إلا تعلية شأن أصحاب البنادق الطويلة، الذين تأذت البلاد في عرضها وطولها من انفرادهم بمصير وطنٍ أكرهوه حد الاستغاثة على التشظي والتمزق، وزعموا في غير ما استحياء أنهم يمثلون إرادة أهله الحرة، في تزويرٍ للحقيقة لا ينطلي حتى على عقول الأطفال، فالمؤتمر الوطني في عهده الأول وفي سبيل التمكن والتفرد بأمر البلاد رمى بنا في أتون حربٍ لعينة، وقدم الروح فدىً لحفظ وحدة البلاد وما درى أنه كان مخدوعا، إلى أن تجلى الأمر في ضحى الغد فأحبطنا إحباطاً هزم لدينا الإرادة، وقتل فينا جميعاً دواعي الفعل والإنجاز، حتى أن القيادة التي كنا نؤمل أن تحافظ على تماسكها رأيناها قد رفعت أياديها معلنةً حالة الاستسلام، فكم حزَّ في نفس كل الشعب السوداني أن يقف رئيس الجمهورية مناشداً بالتسليم لما سمَّاه بالأمر الواقع ولسان حاله يقول:
وهيهات أن يأتي من الدهر فائتٌ ٭٭ فدع عنك هذا الأمر فقد قضي الأمر
وإنني والحق أقول لم استطع مثل كثيرين غيري بلع هذه المناشدة التي كان ينبغي لشرط صحتها أن يكون توقيتها يوم الجمعة 30 يونيو من عام الرماد، هذا إن كان لا بد منها لبسط السلام، فكنا على الأقل وفرنا على أنفسنا أرواحاً ووقتاً وأموالاً، لكن عين الخيال عند سياسيينا دوماً بها رمد، ولا يدركون أن النار من خواصها الإحراق إلا إذا وطئتها منهم الأقدام، لذا قاتلنا أخوتنا وهم قاتلونا بلا طائل، وبسبب عمى البصيرة لا ظفرنا بالوحدة ولا حققنا السلام، وما أزمة أبيي وأمر الحدود والأمور العالقات عن ذلك ببعيدة، فجنوبنا جرى ترشيحه في كافة التحليلات الموضوعية الجادة أن يكون بؤرة للتفلت الأمني، ويدلك على ذلك أن حدود مديرياته ذات القبائل المتداخلة لم يجر حتى الآن ترسيمها إدراياً، وإرادة قيادته من الحركة الشعبية لم تتوافق إلا على أمرٍ واحد، هو أمر الانفصال، لكن باقي المشكلات المرشح أن يعاني منها مواطن الجنوب ظلت كلها عالقة، جوعٌ وفقرٌ ومرض وغير ذلك من المصائب، وقل مثل ذلك عن شمالٍ دارفوره ملتهبة، واقتصاده متأزم، وسوقه غلاؤها يطحن الشعب، حتى أنه ما ترك سبيلاً لهم إلى إدراك البلغة أو الظفر بكسرة الخبز المعالج بالبدر والسموم، ومع ذلك نتشاغل عن مثل هذا التأزم بوعودٍ خلَّب وآمانٍ غافلات.
لكنه هكذا يفعل الاستبداد، فهو كما قال عنه الكواكبي يرحمه الله إنه أصلٌ لكل فساد، وهل من فسادٍ أكبر وأعظم من أن تتمزق بلادٌ ورثناها موحدة، وهل من العدل والعقل أن نضارب بالوحدة ومع ذلك لا نظفر بالسلام، إنه فعلاً منطق المغامرين لا منطق الساسة والسياسة التي يفترض فيها وضع الخطط والاستراتيجات، ولكني لا أظن أن من يدمن خداع الجماهير يمكن أن يعبا لذلك، فالحركة الشعبية لعبت بإرادة أهل السودان جميعاً حينما عاهدتهم على أمرٍ جلل، جعل أبناء جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة، بل والمهمشين كافة، يحملون أرواحهم بين أكفهم ويقدمونها قرباناً لوحدة السودان، ومثل هذا العهد أيضاً قطعه المؤتمر الوطني على نفسه تحت شعار دولة الإسلام، وما حصدنا من ذلك إلا الوعود البارقات، ومع ذلك لا يستحي من يسمون «الشريكان» من «الكنكشة» في السلطة إلى آخر رمق، لكنها كما قلت سابقاً، إنها هكذا طبيعة الاستبداد وسجيته، لا تغيره الأزمان، ولا تؤثر فيه الحادثات إلا اقتلاعاً من الجذور، إنه طبعاً «الاستبداد» لا يعرف الحياء من سوء ما انتج من كوارث، وسجيةً لا يجيد سوى التبرير لتصرفاته السياسية في سبيل ديمومة ملكه وسلطانه، حتى ولو كان في ذلك الهلاك والإهلاك، والتمزق والشتات، وقديماً قال لابواسييه مخاطباً جمهور المقهورين من شعب بلاده التي عشعش فيها الاستبداد وأباض وأفرخ على نحو ما نحن فيه الآن، قال لهم: «كل هذا الخراب، وهذا البؤس، وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم، بل يأتيكم على يدو العدو الذي صنعتم أنتم كبره، والذي تمشون إلى الحرب بلا وجل من أجله، ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصكم في سبيل مجده، هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا المدى، ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، ولا يملك شيئاً فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم التي لا يحصرها العد، إلا ما اسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم، فأين له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي يصفعكم بها إن لم يستمدها منكم؟، وأنى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ وكيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ وأية قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم»، وهذا للأسف ما كان من أمر أهل السودان شمالاً وجنوباً، كلهم قاتلوا باسم الوحدة ــ سواءً كانت إسلامية أو علمانية ــ وهم لا يدرون أنهم إنما بهذا القتال قد علوا من شأن الاستبداد، وخانوا أنفسهم بتمزيق أرض الأجداد، فهل يا ترى ندرك في الزمن بدل الضائع أن بلوغ السلام والأمن والاستقرار يقتضي كبح جماح الحكم المطلق جنوباً وشمالاً، ويوجب النضال ــ ولو بالثورة والانتفاض ــ من أجل إشراك الجميع في كل ما يخص مصير البلاد؟ أم أن على قلوبنا أقفالها؟
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق