السبت، 8 مايو 2010

منظومة القيم السودانية ونذير التحول الأخلاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

منظومة القيم السودانية ونذير التحول الأخلاقي
بقلم/ خليفة محمد الطيب السمري/ المحامي

هل السير في التاريخ يكون بالانحدار من فوقٍ إلى تحت؟ أم أن ذلك يخالف ما قررته المعارف الحديثة من أن السير في التاريخ هو سيرٌ مترقي وصاعد من أسفل سافلين وغايته المقصودة هي محطة "أحسن تقويم" المفتوحة على الإطلاق ؟وهل يا ترى أن لأهل السودان قانون تاريخي خاص بهم يتفردون به دون الإنسانية جمعاء أم ماذا؟وهل مما يشفي أن أدفن رأسي في الرمال وأهمس لنفسي همساً خجولاً لتفسير ظاهرة الانحدار الدركي هذه بالقول بنظرية السير الحلزوني في التاريخ – أي السير الصاعد إلى أعلى الذي يتضمن دورات انحدار في صعوده هذا.
الحق أن كل ذلك لا يشفي الغليل ولا يفسر المشكلة!
فيا ترى ما الذي جرى للسودان ولأهل السودان وما سر التحول الذي طرأ على منظومة قيم أهله؟ نظرية فقد الهوية هي الأخرى لا تفسر الظاهرة لأن فقد الهوية ينطوي على نوعٍ من الإحلال –أن تحل منظومة إيجابية مترابطة ومتكاملة محل منظومة سابقة –لكن الذي أراه الآن شتات لا يربطه رباط. فميتافيزيقيا الأخلاق التي بشر بها الأنبياء وقال بها فلاسفة الفيض والإشراق حلت محلها عندنا أخلاق مادية تأسست فقط على ما هو ملموس ومحسوس فلا محل لضمير ولا خوف مما هو غيب،هذه الأخلاق المادية أزاحت بطريقةٍ مزعجة قيم الغنوصية والعرفان الإشراقي الذي أرست دعائمه النزعة الصوفية وشاد بناءه الروحي رجالٌ قنعوا ببساطة العيش وذاقوا حلاوة التقشف ونقاء السرائر فعاشوا أعزةً كراماً وخلفوا وراءهم سيراً عطرة وقيماً نبيلة يحار في تأصيلها أعظم بحاثة علم الاجتماع الحديث، فقل لي بالله عليك لو أنه اجتمع أعلم فلاسفة هذا الزمان فما هي الآليات التي يستطيعون بها حمل الناس على الصدق في التعامل؟،مثل هذا الجهد وفره علينا أباء صدقٍ كانوا يتواصون بمقولات ضيقة العبارة لكن تعجز الصحائف عن حمل مضامينها فشقلبناها وفرطنا فيها أيما تفريط، "صفي النية وما تكون كذاب"، فالكذب كان عند سلفنا من أهل السودان ضرباً من قل المروة لكنه عندنا أصبح بقدرة قادر نوعاً من الفلاحة يوصف مغارفه بالدهاء والذكاء، وبدل تعريف السياسة بأنها فن الممكن صكت لنا المنظومة المشقلبة تعريفاً جديداً تقول فيه إن السياسة هي تزويق الكذب وتجويد فن الفهلوة والمراوغة ، فأصبح الكذب والنفاق بذلك ناموساً حاكماً بيننا يصرف الأمور من القمة إلى درك القاعدة المسحوقة، كان أهل السودان بفطرتهم يخافون اليمين الغموس وفي المنظومة المشقلبة بات الأمر عند أكثرنا نوعاً من الخرافة والسذاجة، أرسى لنا أهل العرفان قاعدة " أن اليمين جراب دقيق" فأبت قيم المادية الحادثة إلا أن تهزأ وتسخر من هذا المبدأ "الساذج" الذي يقول بالغيب وبما وراء الطبيعة فأوحت لنا بخبثٍ لئيم أن نتحلل من الالتزام متى ما تجرد من سلطان المادي ورقابته سواءً تمثل هذا المادي في شهادة شهود أو مضاهاة توقيع، إلى درجة ما عاد معها المحامون الموثقون في السودان يثقون في توقيع المتصرف في الالتزام ففرض أكثرهم التبصيم في كل العقود والمعاملات لا يمايزون في ذلك بين أمي ومتعلم ( فكما تُحدِثُوا يُحْدَث عليكم).
كنا ثقاة لا نرى موجباً لتكبيل متهمٍ بالسلاسل حين نقله إلى المحكمة إلا في جرائم القتل العمد، فدهيت - بعد طول غياب - حين رأيت لفيفاً من البشر يرسفون في أغلالهم وهو يساقون إلى محكمة أم درمان الجنائية سوق البهائم، وحين تحريت عن الموضوع وأبديت دهشتي لزملائي قالوا إن بعضهم متهم في تحرير شيكات بدون رصيد وبعضاً منهم في تحايل وبعضهم في خيانة أمانة،قلت لهم في دهشة ومتى كانت مثل هذه الجرائم توجب وضع الأغلال والقيود؟ أجابوني في أسى عميق :عفواً صديقي فقد تبدل كل شيء! ،فإن لم يفعل معهم ذلك لاذوا بالفرار،فقلت في نفسي (كما تُحْدِثُوا يُحْدَث عليكم) وحملقت طويلاً طويلاً أنقب في ذاتي عن قيم توارت ودفنت مع الأجداد (عند رأس البكتلوا يمين أقيف لا حُوُلِي ) (وإن جريتوا يمين راسي بزينها) (اتباشروا وزينب وراكم)........
هذه البرغماتية الجديدة التي حلت بأهل السودان قلبت ليلهم نهاراً وعقدت عليهم البساطة التي كانت تغبطهم عليها شعوب العالم قاطبة،فأصبح الواحد منهم ينام مهموماً ويستيقظ وهو مستاء ولو كان يملك من المال الكثير، فلا أمن ولا سكينة لكنه لهاثٌ كحل العيون بالسهد والتقرح ،فقد أفلح القائمون على الأمر أيما فلاح في حفزنا إلى ثقافة الاستهلاك التي أفنت أعظم الإمبراطوريات،لأنها ببساطة تنخر في بنية الإنسان وتهبط به من إنسانيته وتحوله إلى أنانيٍ بغيض،وحين تغدو هذه الثقافة سيداً وحكماً فإن قانون حرب الكل ضد الكل –الذي قال به هوبز في فجر الرأسمالية-يكشر عن أنيابه،ومن ثم يصبح لا كبير فرق بين الإنسان والحيتان.
انتشرت هذه الثقافة البغيضة رغم تنبيه النابهين،وهي ثقافة تفسر بلا شك كل الظواهر السالبة التي طغت على منظومة القيم السودانية،فكثيرُ ممن يكذب ومن يسرق ومن يرتشي ومن تزني لا يفعلون ذلك من فرط الجوع والمثقبة،ولكن لاقتناء الكماليات ،من مثل الهاتف النقال وفاتورته، والعربة الفارهة ومحروقاتها، والزواج المبهرج، وشهر العسل الماليزي،وبعد ذلك ينفتح باب المحاكاة والتقليد اللاواعي،فالكل يجد نفسه مسوقاً إلى المصير المؤلم، تحت ضغط قانون اجتماعي، تشكل وفق المنظومة المشقلبة، هذه الثقافة الاستهلاكية هي التي حلت بالمجتمع المصري يوماً من الأيام، فلم يجد حتى الآن فكاكاً من تخمتها ،فقد كان إخواننا المصريون يرحمهم الله هم السابقون، وما علمنا أننا سنكون في يوم من الأيام رهط اللاحقين الاستهلاكيين حتى النخاع ،ولو أن الأستاذ محمود محمد طه كان لديه سابق علم بأن مثل هذا التحول سيحدث في منظومة القيم السودانية لما تجرأ وكاتب الرئيس محمد نجيـب في الخمسينيات عند اندلاع ثورة يوليو،ولما بعث إليه برسالته الشهيرة التي قـال فيهـا:( وأعلم أن الشعب لا ينصلح بمجرد توفير الرخاء المادي،ذلك بأن الإنسان لا يعيش بالرغيف وحده،كما يظن الشيوعيون..وإنما يعيش بالرغيف وشيءٌ وراءه أهم منه،هو القيم الروحية التي تطهر القلب،وتصفي الذهن،وتسمو بالأخلاق ..وأنت رجلٌ مسلم،من شعبٍ مسلم ،قد ضل الطريق إلى المناهل التي ارتوى منها أوائله،فعب من الكدر الآسن ما قعد به عن رحاب الحياة السعيدة..فهل فكرت في رد القطيع الضال إلى المهيع الأفيح من شريعة القرآن،وأخلاق القرآن؟؟ هل فكرت أن تقوم بانقلاب في مناهج التعليم،ومرافق الصحة،ووسائل التغذية،وأساليب السكن،على هدي الدستور الأزلي،القرآن؟..والفساد في مصر ليس سببه الملك،وليس سببه الساسة والأعوان الذين تعاونوا مع الملك ..بل أن الملك وأعوانه هم أنفسهم ضحايا لا يملكون أن يمتنعوا عن الفساد، أو أن يدفعوه عنهم..فإن أردت أن تلتمس أسباب الفساد فالتمسها في هذه الحياة المصرية،في جميع طبقاتها، وجميع أقاليمها،تلك الحياة التي قامت أخلاقها، إما على قشور الإسلام أو على قشور المدنية الغربية أو على مزاجٍ منهما وأنت لن تصلح مصر،أو تدفع عنها الفساد إلا إذا رددتها إلى أصول الأخلاق،حيث يكون ضمير كل رجلٍ عليه رقيبا) ،ألا رحم الله الأستاذ محموداً، فلو أنه علم حالنا اليوم لوجه هذه الرسالة إلى القائمين على الأمر الذين غفلوا عن هذه المعاني وظنوا أن توفير الهاتف المنقول هو الحل لمعاناة شعبٍ أقعدته المحن والكروب، شعبٌ أفلح أهل رأس المال البغيض في غزوه في عقر داره فزينوا له نهم الاستهلاك - مثلما يفعل مروج الأفيون مع ضحيته – وبهذا الاستهلاك فقد كثيراً من الكرامة وفارق سذاجة الفطرة وسلامة الطوية يوم أن أصبح همه اللهاث وراء كل بهرجٍ مزوق ولو كان في ذلك تقويضُ معاني النبل والفضيلة،وللأسف أن ذلك كله تم في ظل سياسة اقتصادية إن أحسنا الظن بها فإننا نقول إنها غير واعية،إذ كان في مكنة القائمين على الأمر التدخل بسياساتٍ قصدية تمنع تفشي داء الوعي الاستهلاكي القاتل الذي أقلق من قبلنا المجتمعات الغربية حتى فقدت بسببه الأمان والسكينة فعاشت في نهمٍ كانت وصفة الخلاص الاجتماعي منه هي البحث عن تشريعات لا تقول بتجريم الانتحار،وللأسف إن الشعب السوداني الذي يعاني من تفشي هذا الفيروس القاتل هو ذات الشعب الذي قال عنه في الماضي أحد العارفين (فإن عناية الله حفظت على أهله أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض بأسباب السماء)... "فالله المستعان على ما تصفون " وهو ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل...
خليفة محمد الطيب السمري/ المحامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق