الأحد، 11 أكتوبر 2009

الشيخ الترابي وغياب منهج التجديد - تعقيب على كتاب الأخ الكريم محمد صديق

بسم الله الرحمن الرحيم
الشيـخ الترابي وغيـاب منهـج التجـديد.
"تعقيب على كتاب الأخ الكريم محمد صديق"
بقلم/ خليفة محمد الطيب السمري- المحامي.

الأخ الأستاذ الكريم / محمد صديق –بواسطة الأستاذ الفاضل / محمد رحمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
في البدء اعتذر عن التأخير في إبداء وجهة نظري في ما تفضلت به أخي الكريم من كلام هو محل احترامي رغم اختلافي معك في كثيرٍ مما أوردته في رسالتك،وأحمد لله على نعمة أن نيتي تبحث عن الحقيقة لا عن الانتصار للذات ،ويشفع لي فيما اعتقده من حسن النوايا أن ما كتبته عن الترابي -ورأيت أنت فيه غير ما أرى – لم انطلق فيه من منطلق أيديولوجي ولا من إحنٍ على أحد،ولكن كان المنطلق فيه معرفياً،هدفه البحث عن الحقيقة لا أكثر من ذلك،فالشيخ الترابي محل احترام الجميع، ولكن هذا الاحترام لا يجعله فوق نقد الناقدين، ذلك أنه من مبادئ ديننا الحنيف أننا كلنا خطاءون وخير الخطائين التوابون.
لقد أثلج صدري ما بعثته إليَّ على البريد الالكتروني ،فذلك فيه دلالة على أن ما كتبته -على تواضعه- حرك ساكناً،وهذا الحراك لا شك أن فيه إثراء للحوار والنقاش،ولتعلم أخي محمد أني ما تأخرت في التعليق على وجهة نظركم إهمالاً مني وإنما كان تأخري بسبب شواغل الحياة الكثيرة ،حتى أني من فرط انشغالي لم اطلع على رسالتكم الكريمة إلا في يوم الأربعاء الموافق 2أبريل 2008م، لذا أكرر اعتذاري لكم عن التأخير في التعليق على وجهة نظركم فيما يتعلق بمقالي المعنون "الشيخ الترابي بين رفض التقليد وغياب منهج التجديد"، وأسمح لي أخي محمد في نشر تعليقي هذا على الناس لغرض النفع العام وإثراء النقاش.
والآن إليك وجهة نظري في كتابك،في تعليق وسيط،لا هو بالموجز ولا بالمطول،فأقول وبالله التوفيق.
أولاً:
من دواعي تقريب وجهات النظر أن نتفق أولاً على المصطلح الذي نتناقش من خلاله حتى يكون الكلام أقرب إلى الموضوعية قدر المستطاع،وأظن أن المصطلح الجوهري في موضوع مقالي الذي علقت عليه أنت في كتابك هو مفهوم "قواعد أصول الفقه"، فأنا عندما قلت أن الشيخ الترابي لا يملك قواعد أصول خاصةً به،قصدت أنه ليس له "قواعد كلية ومبادئ عامة تقوم عليها أحكامه الفرعية العملية "،ذلك أن هذه القواعد هي التي تميز فقيه عن آخر، وقد تواطأ أهل العلم على أنه لا تطلق صفة المجدد إلا على من يملك أصولاً يتفرد بها عن الآخرين حتى أنهم لم يروا في الشاطبي مجدداً رغم أنه وسع في فقه المقاصد توسيعاً لم يسبقه عليه أحدٌ من العالمين،لكنه مع ذلك ظل يدور في فلك الإمام مالك ولم يخرج عن أصوله،فهو مقلد ومجتهد على أصول غيره -ولا أقول متبع كما تقول أنت- ،وهذا لم ينقص من مكانته العلمية شيئاً.وصفة المجدد هنا لا تطلق على الفقيه بالمزاج والهوى وإنما وفق معايير محددة تعارف عليها علماء الأصول،فمن لا يجيد قيادة السيارة لا يمكن أن تقول عليه سائق مثلاً "نظرة معيارية" – ومن يحل مسألة رياضية أو فيزيائية بتطبيق قوانين انشتاين لا يمكن أن نطلق عليه وصف مبتكر أو مبدع في الفيزياء،هذا هو منطلقي في كل مقالي يا أخي الكريم.
ثانياً/
الفت نظرك إلى أنني لم أقل إن المجدد يجب أن ينسف أصول السابقين له،وإذا كان الأمر كذلك لما كان هناك تعدد في المذاهب أصلاً،فالمجدد هو فقيهُ رفض أصول غيره وقال هذه هي أصولي،فهو لا يستطيع نسف أصول من سبقوه لاستحالة ذلك عقلاً،إذ أن أصول كل فقيه تمثل رأيه ووجهة نظره التي صاغها في شكل أدوات ارتضاها لنفسه ليولد الأحكام الفرعية عن طريقها – أي أن يفرع عليها الأحكام الفقهية العملية - ومن حق اللاحق من الفقهاء أن يقبل أصول من سبقوه أو يرفضها،فإذا رفضها فإما أن ينتقل إلى أصول آخرين غير تلك التي رفضها أو يوجد لنفسه أصولاً يبدعها لنفسه،فلنتفق الآن على أن قواعد أصول الفقه هي " القواعد أو الأدوات التي يتوسل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة" وهي بالنسبة للفقه كالمنطق بالنسبة للفلسفة.،وبها يتمايز فقيهٌ عن آخر.
وبالرجوع إلى الشيخ الترابي فإنني أقر ثانية ً بأنني لم أطلع على كل كتبه، لكني لم أجد فيما أطلعت عليه من كتبه أي أدوات أو مبادئ وقواعد جامعة تمثل قاسماً مشتركاً لكل آرائه -كما تحب أنت أن تسمى فتاواه-،لذا افترضت فرضاً نظرياً مؤداه أن أصول الترابي التي لم أظفر بها قد تكون مبثوثة في كتبٍ أخرى للرجل غير تلك التي اطلعت عليها،فلما سنحت الفرصة وسأله مقدم برنامج الشريعة والحياة عن قواعد الأصول عنده قلت في نفسي شكراً أخ عثمان لقد حرمتنا من الاتصال بالبرنامج ولكنك سألت عما يختلج في دواخلنا ،وقلت في نفسي أيضاً: الآن وجدت بغيتي فالدكتور الترابي سوف يحدثنا اليوم عن أصوله،ولكن للأسف ومع أن سؤال مقدم البرنامج له عن أصوله كان مباشراً إلا أنه (=الشيخ الترابي) لم يحدد في إجابته أي أصول تعود له هو مبدعها ومبتكرها ،فإن كنت أنا لا أعرف أصوله لأني لم أطلع على كل كتبه فهو بلا شك يعرفها (=أصوله) ، حال كونه محيطٌ بكل ما كتب،لكن إجابته لم تتضمن أي شيء مما كنت أصبو إليه،لكنها مع ذلك كفتني مؤونة البحث في بقية كتبه عما أنا بصدد البحث عنه، وخرجت من ذلك بما هو مثل اليقين بأن الشيخ الترابي لا يملك قواعد في أصول الفقه خاصة ً به هو مبدعها ومنتجها ومبتكرها وبها يتميز عن الآخرين،وما كنت لأعيب عليه ذلك لولا دعوته من بداية السبعينات وحتى الآن إلى تجديد أصول الفقه الإسلامي ،فالذي يدعو إلى تجديد الأصول يجب أن يملك على الأقل شيئاً من أدوات تلك الأصول تكون خاصة به ،وإلا أنه يصبح لا كبير فرق بينه وبين من لا يدعو إلى ذلك التجديد،فالقاسم المشترك بين الاثنين هو العجز.
هذا هو الاستنتاج الذي خلصت إليه من مقدمات مقالي "أن من لا يملك أدوات في استنباط الأحكام فإن أهل العلم الشرعي لا يمكن أن يسبغوا عليه صفة المجدد "اقصد صاحب مذهب مميز".فإذا ظفرت أنت بأدوات في أصول الفقه للشيخ الترابي فنبئني بها وأكن لك من الشاكرين ،لكني على مثل اليقين في نفسي أنه من العبث أن تجهد نفسك في البحث عن هذه الغاية العصية،اللهم إلا أن يكون الشيخ الترابي قد أبدع لنفسه أصولاً في الفقه بعد انتهاء حوار الجزيرة معه أو بعد كتابتي هذا المقال،فذلك شيء آخر،فأنا لم انف عنه إمكانية إبداعه أدوات وأصول لنفسه في المستقبل.
رأيتك أيضاً تبرر للشيخ الترابي صنيعه في عدم الكشف عن أصوله المفترضة عندك،وذلك حين قلت ما معناه أن الإجابة على هذا السؤال (= ما هي القواعد الأصولية عند الترابي؟) لا يمكن أن تتم عبر برنامج تلفزيوني، وهذا أمر فيه من الغرابة ما لا يخفى، فأنت قد تكون خلطت بين قواعد الأصول ومؤيدات قواعد الأصول،فأنا اتفق معك أن هذه الأخيرة قد تحتاج إلى كتاب كامل للبرهان والاستنتاج وتوضيح كيف توصل الفقيه إلى هذه الأصول،أما الأدوات والأصول ذاتها فهي في الحقيقة تكون الإجابة عليها بالترقيم 1- .....2-.....إلخ الذي سخرت منه في كتابك،فأنت الآن إذا سألتني عن أصول الشافعي؟ أقول لك إنها: 1- الكتاب 2- السنة 3- الإجماع 4- القياس ،وهو لم يسبقه إلى ذلك الترتيب أحدٌ من المسلمين، وإذا سألتني عن أصول نجم الدين الطوفي؟ أقول لك: 1- إنه خصص النص بالمصلحة المرسلة ما سبقه إلى ذلك أحد من المسلمين،وإذا قلت لي ما هي أصول محمود محمد طه؟ –بغض النظر عن كل ما قيل عنها – أقول لك إنها: 1- القرآن المكي ينسخ القرآن المدني 2- القول بآيات الآفاق، وهو أيضاً لم يسبقه إلى ذلك أحدٌ من المسلمين،وهكذا أبوحنيفة وابن حنبل و داوود الأصفهاني ،إذا سألت عن أصول كلٍ منهم تجد الإجابة بهذه البساطة، فهل وقت البرنامج كان ضيقاً إلى الدرجة التي لا يستطيع معها الترابي أن يكشف عن أصوله على هذا النحو المبسط الذي ذكرناه آنفاً،وكما قلت لك فيما سبق اتفق معك تماماً في أن الإجابة عن أسانيد الأصول ومؤيداتها النقلية والنظرية هي التي تحتاج إلى وقت طويل بل إلى شرح مطول على النحو الذي نجده في كتب الأصول أما حصر قواعد الأصول نفسها فيستطيع أي باحث في الأصول أن يعدد عليك كل أصول المذاهب في وقتٍ وجيزٍ جدا.وألفت نظرك إلى أن الشيخ الترابي لم يُسأل عن مؤيدات أصوله،ذلك أن مقدم البرنامج أو مخرجه في نظري رجل متخصص فما كان له أن يسأل عن هذه المؤيدات وصاحب الشأن لم يفصح عن أصوله.
ثالثاً/
تقول في كتابك أنني استخدمت أسلوب التشويق حين وعدت في مقدمة مقالي بالكشف عن المنهج الأصولي للشيخ للترابي! وأقول لكٍٍٍ أظنك ظفرت بما شوقتك إليه فخلاصة مقالي انتهيت فيها إلى أن منهج الترابي في الأصول هو (اللامنهج) وأنت نفسك أيدتني في وجهة نظري هذه حين قلت في كتابك الذي بعثته إليَّ ما نصه (إن رأيه في الفتوى "أظنك تقصد فتواه بحل زواج المسلمة من الكتابي" كان فتوى لأحد المسلمات الأمريكيات ورأيه في الجلد للمحصن كان بسبب أنه أراد يضع تشريع حد القانون وأيضاً في حد الخمر وكذلك قضية صلاة المرأة أحتاج إليها في خصوص بحثه في إطار تحرير المرأة وهكذا (........) فكل قضية لها سببها) أ.هـ قولك.
أنشدك بالله أخي الكريم وأنت قرأت الترابي أكثر مني أن تبين لي أدوات الأصول – أي المنهج والقواسم المشتركة العظمى التي بنى عليها الترابي آراءه الفقهية تلك،وكيف استطاع تجاوز النصوص الشرعية في هذه الفتاوى؟ يجوز للمسلمة الأمريكية-على رأيك – أن تتزوج الكتابي ويحرم ذلك على المسلمة السودانية؟ أليست هذه هي الانتقائية التي عنفتنا عليها حين أطلقناها على الشيخ الترابي؟ .
أخي إن قولك "فكل قضية لها سببها" يدل دلالة قاطعة على أنك لا تعلم للترابي منهجاً محددا أو قواعد له في أصول الفقه ،ولا أريد أن أحمل الترابي نتيجة قولك (فكل قضية لها سببها) فأنت بهذا القول نفيت أن يكون للترابي أصول فقه جامعة،مع أن قصدك أن تثبت له تلك الأصول. (كل قضية لها سببها) ،هذا وأيم الله هو الترقيع الذي أبيته أنت على الشيخ الترابي حين وصفته أنا به ،وهذه هي الانتقائية والمزاجية التي زعمت في مقالي أنها من صفات منهج الشيخ الترابي،وهذا بلا ريب يعارض ما سماه فقهاء الأصول بالقواعد الكلية والأصول الجامعة التي يتمايز بها كل فقيه عن الآخر،فإذا أثبت أنت الترقيع والمزاجية للشيخ الترابي فعلام تعنفني أخي ،فهل أنا قلت في مقالي أكثر من ذلك؟.
ولإيضاح ما أقصد به الأصول الجامعة أقول لك مثلاً: لو أنك سألت محمود محمد طه وقلت له : كيف تقول في مذهبك إن بعض الحدود الشرعية لا يجوز تطبيقها في القرن العشرين وأن الديمقراطية يجب أن تحل محل الشورى وأن المهور لا داعي لها في الزواج وأن رئيس الدولة لا فرق عندي أن يكون نصرانياً أو مجوسياً أو مسلما وأن جهاد الطلب عندي ساقط إذا سألته كيف تقول بذلك؟،فإجابته عن كل هذه الفروع والأجزاء ستكون "إن هذه المسائل كلها نظمها القرآن المدني وهو عندي منسوخ بالقرآن المكي (قاعدة كلية جامعة)"، حينها لن تحتاج أخي لمجادلته في هذه الفروع وإنما ستناقش أصوله وتوضح في نقاشك مدى صلاحها من فسادها،هذا مثال على الأصول التي أعني،وأقول لك بمنتهى الأمانة لم أجد في كتب الشيخ الترابي شيئاً من مثل هذا،وهذا هو السبب في أني لم أر فيه مجددا، علماً بأنها ليست رؤية ذاتية من عندي بل هي رؤية مبنية على معايير تواطأ عليها أهل أصول الفقه، وإذا غصبتني على أن أرى على نحو رأيك فإن المنظومة ستختل من بداية تاريخ الفقه الإسلامي وإلى يومنا هذا وسيصبح الكاساني مجددا والسرخسي مجدداً والنووي مجددا إلى نصل إلى العلامة الضرير وعوض عبد الله أبوبكر بل حتى أنت وأنا سنصبح مجددين وعلى المزاج والهوى،وهذا ما تأباه العقول.
رابعاً:
أراك نسبت القياس الفقهي في كتابك إلى المنطق الأرسطي "أو ما سميته أنت المنطق الأغريقي"،إني أخالفك الرأي في ذلك،وفي ظني أن هذا خطأ تورط فيه كثيرون غيرك،فالقياس الفقهي في نظري لا يندرج في هذا الباب أصلاً والذين رفضوه وعلى رأسهم ابن حزم الظاهري –وهو من المناطقة-لم يرفضوه لأنه ينتسب إلى المنطق الأرسطي،فابن حزم حين رفض القياس رفضه حال كونه (=القياس) نقل حكم الأصل إلى الفرع بسبب صفة مشتركة بينهما–هي عند فقهاء القياس علة الحكم - فهو لما نظر في الأمور وجد أن العلة تكون دائماً ظنية لأنها صفة،و الصفات المشتركة بين شيئين كثيرة فاختيار صفةٍ بعينها وجعلها علة للحكم هو اختيار انتقائي ينطوي على ظنٍ غالب والظن الغالب هو شك،وعند ابن حزم أن أحكام الشريعة يجب أن تبنى على اليقين لا على الظن الغالب "فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"الآية، ولا يقين عنده (=ابن حزم) إلا في النص،لذا يجب في نظره أن تبنى الأحكام على ظاهر النص فقط حسب ما تقتضيه دلالة اللغة عند العرب.هذا هو سبب رفض القياس الفقهي عند من قال برفضه.
وإني أرى –كما يرى آخرون- أن القياس الفقهي لا دخل له بالمنطق الأرسطي الذي زعمته في كتابك،وزيادةً في الإيضاح أقول إني من المعتقدين بأن نظم المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية انحصرت في أربعة نظم،هي:1- النظام البياني 2- النظام البرهاني 3- النظام العرفاني 4- النظام التجريبي،وكل واحد من هذه النظم المعرفية ساهم في إنتاج الثقافة العربية الإسلامية بقدر – أنظر كتاب "بنية العقل العربي" من مشروع نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري -.
وما يعنيني في هذا الصدد هما النظامان البرهاني والبياني، النظام البرهاني "منطق أرسطو" يتجه دوماً من المحسوس صاعداً إلى التجريد،بينما النظام الفقهي البياني يتجه على العكس من ذلك ،أي من التجريد نازلاً إلى المحسوس "من الميتافيزيك ، من الوحي "النص القرآني" إلى ما هو تاريخي إنساني،هذا من جهة،ومن جهةٍ أخرى يقوم النظام الفقهي البياني على قرائن التشبيه – أي البحث عن وجه شبه بين شيئين- بينما النظام البرهاني "منطق أرسطو" يؤسس على مقدمتين أو أكثر -إحداهما على الأقل بديهية- ونتيجة .
والآن لنطبق هذان النظامان على المثال الدارج عند علماء القياس وهو مثال الخمر والنبيذ، وليكن منطلقنا في البدء بيانياً على النحو التاليً: الخمر ورد فيها نص يقول بتحريمها،وهي في لغة العرب عصير العنب "المسكر"، والنبيذ لم يرد نص من الشارع بتحريمه،وهو في لغة العرب عصير الشعير"المسكر"،الفقيه عندما يعالج هذه المسألة فإنه يجمع الأوصاف المشتركة بين الشيئين أو الأمرين اللذين يريد أن يوائم بينهما بحكم واحد- وهذا يسمى عندهم السبر والتقسيم- والصفات المشركة بين الخمر والنبيذ في هذا الصدد كثيرة منها 1- أن كلاهما من ثمرة زرع 2- كلاهما مشروب 3- كلاهما مختمر 3- كلاهما مسكر. يبحث الفقيه عن وجه الشبه الغالب ،وإذا افترضنا أنه اهتدى إلى أنه هو السُكر ، فأن اختيار هذه الصفة أو الشبه من بين الصفات الأخرى هو ظني ،فإن الفقيه يقول في حكمه إني نظرت في الصفات المتشابهة بين الخمر والنبيذ وهي كثيرة فرجحت أن وجه الشبه الغالب بينهما هو أنهما الاثنان مسكران ،والأول فيه نص "التحريم" والثاني ليس فيه،لذا فإنني نقلت حكم الأول إلى الثاني بجامع هذه الصفة المشتركة "علة الحكم"،فاختياره لهذه الصفة العلة من بين صفات أُخرى هو أمر ظني.
لنطبق نفس المثال مستعملين آلة المنطق الأرسطي الإغريقي وذلك يكون على النحو التالي ( كل مسكر حرام "مقدمة أولى"، الخمر مسكر "مقدمة ثانية"،إذن الخمر حرام، ،كل مسكر حرام "مقدمة أولى" النبيذ مسكر "مقدمة ثانية"،إذن النبيذ حرام ، فتلاحظ معي أنه لا توجد مقايسة بين الخمر والنبيذ على النحو الذي جري في القياس الفقهي البياني ،فالمقدمات في القياس المنطقي تكون يقينية وكذلك النتيجة تكون يقينية أيضا بينما في القياس الفقهي المسألة كلها ظنية ،إلى جانب أنك لا تقيس في القياس المنطقي النبيذ على الخمر أو الخمر على النبيذ ولا تبحث عن وجه الشبه بينهما وإنما تقيس كلاهما على قاعدة يقينية وهي قاعدة كل مسكر حرام ، وإذا أردت أن تقيس النبيذ على العنب في القياس المنطقي فإن النتيجة ستكون فساد ، لأنك ستقول "الخمر مسكر " وهو عصير العنب المختمر "مقدمة أولى" ،النبيذ مسكر "مقدمة ثانية"، إذن النبيذ خمر" ،هذه النتيجة التي يوصلنا إليها المنطق الأرسطي يأباها الاصطلاح اللغوي العربي،فالمواضعة في لغة العرب تقول : إن الخمر هو عصير العنب وأن النبيذ هو عصير الشعير، فالعربي إذا قال لأخيه: ناولني كأساً من الخمر فإنه لا يناوله كأساً من عصير الشعير وإنما يناوله كأساً من عصير العنب والعكس بالعكس،إذن النتيجة التي يوصلنا إليها المنطق الأرسطي هي أن تعطي عصير الشعير لمن طلب منك عصير العنب،فهما شيء واحد،وهذا فساد لا يقول به عاقل ،والسبب في هذا الفساد أن آلة المنطق محلها الفلسفة وهي تعدل القياس في فقه الشريعة،لكنهما أمران مختلفان جداً وكل منهما مؤسس على نظام معرفي يتمايز عن الآخر تمايزاً تاما،إلى جانب ذلك فإن النتيجة في القياس البرهاني قطعية وليست ظنية وهي تؤسس على المقدمات فإذا كانت المقدمات خاطئة كانت النتيجة خاطئة على نحو ما هو في مثالنا هذا وإذا كانت سليمة كانت النتيجة سليمة لكنها في كلا الأمرين نتيجة قطعية لا ظن فيها أبدا بينما القياس الفقهي النتيجة فيه ظنية دوماً لأنه لا يقوم على مقدمات وإنما على علاقة بيانية أساسها وجه الشبه بين المقيس والمقاس عليه. أرأيت أخي الآن أن القياس الفقهي برئ من تهمة أنه ضربٌ من المنطق الأرسطي؟.وإني بعد ذلك أقول بيقين إن القياس صناعة عربية إسلامية مؤسسة على النظام البياني العربي الأصيل،ولا علاقة له بمنطق أرسطو،فمنطق أرسطو أدخله إلى الحقل الديني الإسلامي الإمام الغزالي وهو بصدد جدله مع الفلاسفة حين حاسب بلا وجه حق الفلسفة العقلانية التي تقوم على السببية الصلبة بنقده لفلسفة المشارقة العرفانية ممثلةً في ابن سيناء والفارابي وكان ذلك منحصرٌ في علم الكلام ولا علاقة لذلك لا من قريب ولا من بعيد بالقياس الفقهي ،وأظن أن ابن رشد قد خطأه بحق في كتابه "تهافت الفلاسفة"،فضلا عن ذلك فإنه وضح اختلاف منهج الفسلفة عن منهج الشريعة حين قال في كتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال ، "إن الحكمة –الفلسفة- أخت الشريعة الرضيعة، وأكد فيه على أنه على الرغم من أن غايتهما واحدة وهي الانطلاق نحو الكمال الأخلاقي إلا أن لكل واحدة منهما منهجها على النحو الذي ذكرناه آنفاً ،فإذا ذهبت تطبق منهج واحدة منهما على الأخرى فإنك تكون بذلك قد وقعت في فسادٍ منهجي عظيم.
هذا ما وددت أن أقول بشأن رأيك عن القياس الفقهي ووصفك له بأنه يندرج في باب المنطق الأرسطي الذي سميته أنت في كتابك "المنطق الأغريقي" ولا خلاف لأن أرسطو كان إغريقياً من اليونان.
خامساً:
أراك تطلق الأحكام في كتابك من غير أن تتبعها ببرهان،فأنت جزمت في رسالتك بأن دستور 1998م الذي أشرف على إعداده الشيخ الترابي كان إسلامياً خالصا،من غير أن تبرهن على ذلك،فكنت انتظر منك على الأقل أن تجري بعض المقايسات بين بعض نصوص ذلك الدستور وبعض مبادئ الشريعة الإسلامية،عندها كنت ستصل إلى أن الدستور المذكور كان كله ممازجة بين العلمانية والإسلامية،في صورة ماكرة قد تنطلي على غير المتخصص، اقرأ معي مثلاً نص المادة "65" من الدستور المذكور وهو كما يلي: (الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً ودستوراً وعرفا هي مصادر التشريع ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة الأمر) وبما أنك ذكرت في كتابك إني لا أفهم ما معنى الإجماع عند الشيخ الترابي،فأسمح لي أن أفكك لك هذا النص الدستوري.
يلاحظ أن إجماع الأمة "السودانية مسلمها وكافرها" في هذا النص كمصدر من مصادر التشريع يتساوى في قوته الدستورية مساواة تامة مع الشريعة الإسلامية،لأن المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه عند أهل اللغة"الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة (......)هي مصادر التشريع"،وألفت نظرك إلى أن هذا الإجماع هو غير إجماع الشريعة -الذي هو آلة من آلاتها الداخلية كالقياس تماما-ً،وإنما إجماع الأمة هنا مصدر دستوري للتشريع مساوٍ تماماً للشريعة،فإذا أجمعت الأمة السودانية على أمرٍ يخالف الشريعة فهو إجماع معتبر،وهذه هي فكرة الديمقراطية الغربية وهي فكرة علمانية عقلانية،أما في صنوتها الشورى فلا يجوز للأمة أن تصدر تشريعاً فرعياً وحداً يخالف الشريعة،علماً بأن النص الدستوري الشرعي المقابل لهذا النص هو (الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع) بعد ذلك تعمل أدوات استنباط الأحكام عملها في إنتاج التشريع الفرعي "العادي",ومن هذه الأدوات الإجماع والقياس والمصالح المرسلة...إلخ على نحو المذهب الفقهي الذي يرتضيه أهل البلاد المسلمة المحكومة بالدستور الإسلامي.
لا ريب أن هذا النص الدستوري "م/65" استعار المصطلحات الإسلامية وصاغها في صورة ترضي أهل الايدولوجيا،لكن الأمر عند تفكيكه وتحليله يبدو صارخ في علمانيته ومع ذلك هلل له الأتباع -الذين ينسبون أنفسهم إلى الفقه- بجرأة وثوقية ويقينية لا يتخللها الشك ولا تدع مجالاً لنسبية اختلاف الرأي.
أنظر معي أخي أيضاً إلى نص المادة الرابعة من الدستور المذكور( الحاكمية في الدولة لله خالق البشر والسيادة لشعب السودان المستخلف يمارسها عبادة لله وحملاً للأمانة وعمارة للوطن وبسطاً للعدل والشورى وينظمها الدستور والقانون)،ألفاظ إسلامية ومصطلحات شرعية إلا أن النتيجة غير ذلك.
الحاكمية لله خالف البشر لا خلاف على ذلك،ولكن السيادة لشعب السودان المستخلف ،شعب السودان هذا فيه المسلم والمسيحي والوثني واللاديني لكن كلهم مستخلفون ،هل هذا ما قالت به الشريعة أم أنه قسر الدين بلا برهان ليوافق الواقع القومي المؤسس على المواطنة،علماً بأن القومية فكرة علمانية لا إسلامية متجاوزة،يقول تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" الآية،فنظرية الاستخلاف وفق هذا النص القرآني أمرٌ منوط بالمسلمين ولا يعني غيرهم في شيء،فهل تستطيع أخي أن تدلني على الآلة الفقهية التي استطاع بها الشيخ الترابي تجاوز هذا النص الشرعي؟
هذا هو الذي دعاني للبحث في أصوله،لكني لم أجد غير "اللامنهج"،وإذا استطعت أنت أن تصل إلى ما يرفع التناقض بين مبادئ الشريعة وبين ما جاء في هذه النصوص الدستورية فدلني أخي الكريم،فأنا تائه.
سادساً:
ذكرت في كتابك ما معناه إني لم أقرأ الشيخ الترابي جيداً،وإني لم أفهم مضامينه لأن للرجل –حسب قولك- طريقة لغوية لا يفهمها إلا ذوي العمق والنظر الثاقب.
دعني أولاً أتهم نفسي بالعي والحصر،فأنا لم أفهم الشيخ الترابي،لذا فإنني أستجير بك حال كونك قرأت الترابي أكثر مني ،فقل لي بالله عليك بكل صدقٍ وأمانة عن ماهية المنهج العام الذي خرجت به أنت من قراءتك لكتاب الشيخ الترابي الأخير " النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع"،ولتعلم أخي أن أي كلام بلا منهج فهو كلام والسلام،جدل وسفسطة،والسفسطة عند اليونان هي الغلاط عندنا.هذه واحدة.
الثانية، إني والحق أقول لم أظفر في كتابه هذا (=الترابي)على هذا المنهج الذي أنشده،وكما قلت لك قد يكون عاقني من ذلك العي والحصر،لكن لتعلم أخي محمد أن علماء النفس والتربية والمناهج كلهم يقولون : (أن ضبابية العبارة تدل على تشوش عقل الكاتب وعدم وضوح الفكرة في ذهنه)،فمن كانت الفكرة عنده واضحة فإن التعبير عنها لا يحتاج إلى حشد الكلمات المفخمة ولا إلى تشديد التفاعيل التي ذكرتها في كتابك،وأنا اتفق معك تماماً أن عبارة الشيخ الترابي عسرة جداً وأنه يحشد كثير الألفاظ للمعني القليل،وهذا ذم وليس مدح كما يبدو للبعض، فالكتابة تكتب ليفهمها الناس،فإذا لم تؤدي غرضها فإنها تصبح آلة فاسدة معطلة،واعلم أخي أن الذين يجنحون إلى هذه الطريقة المعقدة العسرة سرعان ما يرمي الناس كتبهم في المزابل -لأنها عادة تكون خالية من المفاهيم- ،ويبقى ما يفهمه الناس وما يتحدث إليهم بلغتهم التي يفهمون،وما أجمل أن تكون العبارة على قدر المعني،وما أمتعها حين تدل عليه من أقرب طريق،اسمع معي أبوحيان التوحيدي ماذا قال في كتابه " البصائر والذخائر": (وينبغي أن يكون الغرض الأول في صحة المعنى،والغرض الثاني في تخير اللفظ،والغرض الثالث في تسهيل اللفظ وحلاوة التأليف،فخير الكلام على التصفح والتحصيل: ما أيده العقل بالحقيقة وساعده اللفظ بالرقة،يجمع لك بين الصحة والبهجة والتمام).
ولا يسعني أخيراً إلا أن أختم بمقولة للإمام الغزالي عن الايدولوجيا التي تبرمج الرجال وتعطل عندهم آلة التحليل،يقول رحمه الله:( فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائلٍ حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلاً،..وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً،فهم أبداً يعرفون الحق بالرجال،ولا يعرفون الرجال بالحق،وهو غاية الضلال).
وختاماً أقول،هذا ما عنَّ لي بشأن رسالتك التي بعثتها إليَّ على البريد الالكتروني،وإليك مني السلام.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أخوكم/خليفة محمد الطيب السمري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق