الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009

"برفع الرقابة القبلية الرئيس يخرق الدستور ويتعدى على اختصاص الدستورية.""فهل هذه دولة القانون التي ننشد؟"

بسم الله الرحمن الرحيم
"برفع الرقابة القبلية الرئيس يخرق الدستور ويتعدى على اختصاص الدستورية.""فهل هذه دولة القانون التي ننشد؟"
سبق لي أن كتبت مقالاً لا بالمطول ولا القصير ناقشت فيه بعض جوانب من قرار المحكمة الدستورية بشأن الطعن الدستوري المتعلق بالرقابة القبلية على الصحف ،وأبديت في ذلك المقال وجهة نظر قانونية معارضة، لا تتفق مع ما انتهت إليه المحكمة الدستورية في قراراها السابق ذكره ، هذا من الناحية الموضوعية ، أما من الناحية الإجرائية الشكلية فقد نوهت في خاتمة مقالي إلى أن نص المادة 122/1 من الدستور جعل قرارات المحكمة الدستورية نهائية ، وأنه لا أمل حتى في حق المراجعة وفق نص المادة 23/5 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005، حال كون المحكمة المذكورة مختصة اختصاصاً أصيلاً بالفصل في الطعن موضوع القرار، ولمزيدٍ من الإيضاح فإنني أورد في هذا الصدد نص المادة "122/1" من الدستور الانتقالي لسنة 2005 والتي تقرأ ( تكون المحكمة الدستورية حارسة لهذا الدستور ودستور جنوب السودان ودساتير الولايات وتعتبر أحكامها نهائية وملزمة)،وكذلك أورد نص المادة 23/5 من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م والتي تقرأ ( أحكام المحكمة وقراراتها نهائية غير قابلة للطعن أمام أي جهة إلا أنه للمحكمة من تلقاء ذاتها أو بناءً على طلب الأطراف مراجعة أحكامها إذا تبين لها أن موضوع القرار أو الحكم لا يدخل في أي أمر ضمن اختصاصاتها بشكلٍ مباشر)، فضلاً عن ذلك فقد نصت المادة 24/1 من قانون المحكمة الدستورية على أن ( أحكام المحكمة وقراراتها ملزمة لجميع مستويات الحكم في السودان وأجهزة الحكومة القومية وحكومة جنوب السودان وحكومات الولايات وللكافة فور صدورها ويحدد قانون خاص إجراءات تنفيذ المحكمة لأحكامها) .هذه النصوص الدستورية والتشريعية أكدت على وجه اليقين أن أحكام المحكمة الدستورية تتصف بالنهائية وعدم القابلية للطعن فيها ،وأنه لا يجوز لها هي نفسها مراجعتها طالما أن موضوع القرار يدخل في دائرة اختصاصها، وأظن أن المشرع قصد بذلك أن يعطي الفصل في المسائل الدستورية نوعاً من التحصين تستقر به أحوال البلاد السياسية لكن للأسف الشديد طالعتنا الصحافة السودانية بخبر يصيب هذا الاستقرار المنشود في مقتل ويطعن دولة القانون في خاصرتها حتى حد الاستغاثة ، فقد قرأت خبراً في يوم الاثنين 28/9/2009م على موقع سودانايل الإلكتروني نقلاً عن رويترز ملخصه أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير أمر برفع رقابة الدولة على وسائل الإعلام يوم الأحد ، وأن الأستاذ علي شمو رئيس المجلس القومي للصحافة صرح لرويترز أنه حضر اجتماعاً مع الرئيس البشير أمر فيه بوقف الرقابة ابتداءً من يوم الأحد .لا شك أن مضمون هذا الخبر سار ومفرح لكل إنسان ينشد الحرية ويأمل في بناء سودان ديمقراطي تحترم فيه حقوق الإنسان ، لكن من ينظر إلى جوهر الأشياء ويدقق في حقائق الأمور فإنه بلا شك يصاب بغير قليل من الاستياء والإحباط، ذلك أن الحرية التي تمنح بهذه البساطة يمكن أن تسلب في أي وقت بذات البساطة ، ولا شك أيضاً أنه لا قيمة لحرية لا تحترم مرجعياتها التي توافق عليها الناس المعنيون بتلك الحرية .لقد حز في النفس ما تضمنه ذلك الخبر من تعدٍ صارخ على حكم قضائي صادر من جهةٍ مخولة بموجب الدستور للفصل في المسائل المتعلقة بالحريات والحقوق الدستورية،لقد استمعت تلك الجهة "المحكمة الدستورية" إلى مرافعات الطاعنين والمطعون ضده "جهاز الأمن" وانتهت في قراراها إلى أنه وللحيثيات التي أوردتها في صلب حكمها يحق لجهاز الأمن ممارسة الرقابة القبلية على المنشورات وفق الضوابط التي نوهت إليها في قرارها ،وبهذا يكون قراراها قد حاز النهائية وتحصن ضد الطعن فيه من أي جهةٍ كانت ووجب نفاذه على الفور بغض النظر عن سلامة أو عدم سلامة القرار من الناحية الموضوعية ، هذا إذا كنا فعلاً نريد أن نبني دولة قانون يحتكم الناس فيها حين يحتدم الخلاف بينهم إلى القضاء ، أما الذي تم ووقع فهو في حقيقة الأمر تدخل سافر في عمل القضاء لا تقره الأعراف الديمقراطية ،فضلاً عن أنه عمل ذو طبيعة سياسية لا علاقة لها بالقانون والتقاضي، وفي هذا الصدد أنوه إلى خطورة التدخل في عمل القضاء ، وإن كنا قوماً ناصحين فإن في التاريخ القريب لنا عظاتٌ ملهمات ، فكلنا نذكر كيف تأبى الساسة وتمنعوا من تنفيذ حكم المحكمة العليا في العام 1968 بشأن القضية الدستورية المتعلقة بطرد الشيوعيين من البرلمان فكانت عاقبة ذلك سيلاً من الدماء ودكتاتورية أهلكت الحرث والنسل وما ورثنا منها سوى الخزي والبوار ، لقد غار قضاة السودان وقتئذٍ على كرامة القضاء وقدم السيد بابكر عوض استقالته احتجاجاً على تأبي الحكومة تنفيذ قرار المحكمة العليا وكان موقفه وموقف زملائه بالجد مشرف للقضاء السوداني ،فهل يا ترى يعيد التاريخ نفسه في ظل هذا الوهن الذي أصاب كافة مرافق الدولة ومؤسساتها؟ .قد يقول قائل إن القرار صدر لمصلحة جهاز الأمن ،وأن المحكوم له في حكمٍ قضائي أياً كان يجوز له التنازل عن حقه وصلاحياته التي خولها له الحكم القضائي،وبما أن رئيس الجمهورية هو رأس السلطة التنفيذية كلها فإنه يحق له التنازل عن حق الرقابة القبلية الذي قررته المحكمة الدستورية لجهاز الأمن الوطني ؟قد يبدو لأول وهلة أن مثل هذا القول صحيحاً ،ولكن عند التأمل يبين الخطل، ذلك أن الأحكام القضائية الصادرة لمصلحة الإدارات العامة والمؤسسات الحكومية يطبعها طابع النظام العام ،فلا يحق لأحد أن يتنازل عن الحقوق المكفولة فيها ،خاصةً إذا ما علمنا أن هذا الفرد الأحد مجرد وكيل وليس أصيلاً ولا صاحب حق ، وإذا قلنا بغير ذلك فإنه يجوز لرئيس الجمهورية ولأي وزير أن يتصرف في أموال وزارته على النحو الذي يراه بلا قيد ولا ضابط سوى ما يميله عليه هواه .إن تدخل رئاسة الجمهورية ووقفها لموجب حكمٍ قضائي صادر من جهة ذات اختصاص لا شك فيه من الخطورة ما لا يخفى ، ويجب أن لا نفرح كثيراً حال كون تدخل رئاسة الجمهورية جاء هذه المرة في مصلحة حرية النشر والتعبير ، فالحرية أبداً لا يتوسل لها بخرق أساسها وانتهاك وسائل ضماناتها التي رسمها الدستور "المحكمة الدستورية" ، فالمحكمة الدستورية يجب أن تحترم ويجب أن تكون قراراتها -لنا أو علينا – محل توقير وتبجيل ، ولا توقير لها ولا تبجيل إلا بسريانها على رؤوس الكافة بما في ذلك رئيس الجمهورية . وإلا فإننا سنندم يوم غد ٍ حين تصدر أحكامها لمصلحتنا ويتدخل ذات رئيس الجمهورية ويمنعها من النفاذ، وبذلك يصبح وجود هذه المحكمة وعدمه على حد سواء ،ولن تعدو إذا ما عطلت أحكامها وصلاحياتها أن تكون ديكوراً وشكلاً للدعاية السياسية في مواجهة العالم المتحضر ،فإن كانت لأمريكا وفرنسا وبريطانيا محاكمها الدستورية فلنا أيضاً محاكمنا الدستورية التي تحمي حقوق الإنسان مع علمنا التام بأنها – أي محاكمنا – موضوع لتدخل السلطة التنفيذية عند كل صباح يوم جديد ،ولا شك أن مثل هذا التدخل سيفقد القضاء السوداني هيبته ،ويفقده الثقة محلياً ودولياً ، فإذا جاءت الجنائية الدولية أو غيرها من المؤسسات الدولية تتهم قضاءنا بالانحياز وعدم الكفاءة فينبغي أن لا نضجر ونثور فعلى نفسها جنت براقش.إن بسط الحريات جميعاً بما في ذلك حرية النشر والتعبير كان ينبغي أن يتوسل إليه بإصلاح القانون وإصلاح مؤسسة القضاء لا بالتعدي على هذه المؤسسة التي هي صمام أمان استقرار المعاملات ،عامةً كانت هذه المعاملات أو خاصة ، كنا نأمل أن ينجز هذا التحدي عن طريق إصلاح المحكمة الدستورية نفسها بتخويلها مزيداً من القوة والثقة كأن نسعى لأن يتم تنصيب قضاتها عن طريق الانتخاب لا التعيين وأن توضع الآليات الكفيلة بوضعها في موضع الحياد التام ، كنا نأمل أن يتم إنجاز هذا التحدي بمراجعة كافة القوانين على ضوء الدستور الساري في البلاد والتصدي لمشروع قانون الأمن الوطني الجديد وتقييده بنص المادة 151 من الدستور .فمثل هذه الإجراءات هي وحدها التي تكفل حرية للنشر والتعبير تتسم بالديمومة والاستمرار ، أما أن نفرح لمجرد قرار مؤقت يدك حصناً من حصون العدالة لقاء أن ننمق بضعاً من الكلمات فذلك لا يعدو أن يكون ضرباً من توفير ركنٍ للنائحين يركنون إليه لمؤاساة الذات بذرف الدمع السخين ، فالتعبير لن يجدي ولن يغير شيئاً طالما أن صاحبه يعلم أنه منحة مانح وعطية مقتدر، وإنما الذي يجدي الحق الذي تحميه القوانين والمؤسسات ، وهذا يوجب علينا أن نقف إلى جانب قضاة المحكمة الدستورية لنقوي مواضع ضعفهم حال كون قوتهم قوة لنا جميعاً ، ويجب علينا أن كنا ننشد الخير لأنفسنا أن نقف معهم لتنفيذ ما انتهوا إليه في قرارهم موضوع هذا النقاش حتى ولو كان فيه علينا ضرر آني ،فعلى المدى الاستراتيجي البعيد نكون بتقويتهم قد كسبنا مغانم لا تحصى، ولنرفض تدخل الرئيس في إيقاف منطوق حكمهم ولنقبل رقابة جهاز الأمن علينا جميعاً طالما أنه صدر بها حكم قضائي ، فإذا فعلنا ذلك ستقوى عزائمنا ليوم الكريهة والنزال ،نزال إصلاح القانون وإصلاح المؤسسات عبر العملية الديمقراطية التي تعود على الجميع بالخير والاستقرار ومن هذا المنبر فإني أناشد كافة القوى السياسية وكافة القانونيين ،قضاة ومحامون ، بمعاضدة المحكمة الدستورية وشد أذرها لتؤدي رسالتها وواجبها في صيانة الدستور وحفظه، وعند ختامه أقول إن دستور 2005م في وجهة نظري هو أفضل وثيقة دستورية عرفتها البلاد منذ الاستقلال ،فهلا اجتهدنا لإنزالها إلى حيز التطبيق،وهلا سعينا لأن تكون دستوراً دائماً للبلاد بعد استنفاد ما هو مؤقت منها لغرضه، لتكون تلك غاياتنا إن كنا فعلاً ننشد للبلاد أمناً واستقرارا،فإن لم نفعل فلا محالة الطوفان آت.والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق