الأربعاء، 17 يوليو 2013

الدولة المتفرجة مفهوم حكم جديد

بسم الله الرحمن الرحيم
"الدولة المتفرجة مفهوم حكمٍ جديد"
بقلم : خليفة السمري – المحامي.

بشرتنا الإنقاذ في مطلع فجرها الصادق أو الكاذب –لا أدري – بأنها لأجل "الغبش" والمسحوقين أنطلق قطارها وأن رفع المعاناة عن المواطن كان دافعها وحاديها،صدقنا وآمنا وتدافعنا زرافاتٍ ووحدانا لتأييد الحكومة المتدخلة في كل شأن،ظناً منا بأنها خرجت من كنف الغلابة،ولا تحتاج إلى من يشفع لهم عندها، حال كون القيادة فيها بحزنهم ملتصقة،وبما تصبو إليه نفوسهم مطلعة،وها قد مضت علينا إحدى وعشرون كاملةً،دارت خلالها دولتنا على نفسها دورات ودورات إلى أن أبدعت لنفسها وصفاً وشكلاً في الحكم لم تعهده نظم السياسة،ولم تعرف مثله نظريات الحكم والسلطان،بل أظن أنه يحار في تكييفه فقهاء القانون الدستوري ومنظري النظم السياسية،إنْ قيض لهم النظر في جواهره ومضامينه.
سمعنا في علوم السياسية عن الدولة المتدخلة أو دولة الرعاية،وسمعنا عن الدولة الحارسة ،بل سمعنا عن دولة المنزلة بين منزلتين ،وشنفت آذاننا أنماطٌ كثيراتٌ أُخر من صور الدولة وأشكالها،لكن أبداً ما خطر على بالنا مفهوم الدولة "المتفرجة"،ولم يكن عندنا من المفكر فيه– إذا استعرنا محمد أركون – إلا بعد أن تمخضت عنه دولة الإنقاذ واحتفت في حرارة بميلاده،ولعمري إنها لكارثة أن ينتهي دور الدولة إلى الفرجة والمشاهدة والتنصل عن كافة مسئوليات دولة الرعاية،خاصةً وأننا نعيش في دولة يصنفها أهل النظر السياسي بين عداد الدول المتخلفة،-وتلطفاً نقول دول العالم الثالث- التي تعاني من الديون وشح المال وقِل الادخار،ومن ثم فإن حظ مشروعاتها التنموية من التنفيذ عادةً ما يكون قليلا،ولا يرتجى في مثل هذه الدول أن ينهض القطاع الخاص فيها بمهمة التنمية والنمو،مهما وفرنا له من المعينات النظرية والقانونية والاقتصادية،ولن يطلع بهذا الدور،حتى لو حفزناه بالإعفاءات الجمركية والضرائبية ،وحتى لو رفعنا عن كاهله الإتاوات التي عوقت عملية الإنتاج في بلدٍ يعاني شح الصادرات.
هذا الحديث يقودني إلى ما طالعتنا به الصحافة السودانية في الأيام القليلة الماضية عما انتهى إليه المسؤولون أخيراً من إلغاء أمر تأسيس الهيئة القومية للكهرباء،وتكوين خمس شركات بدلاً عنها،قيل عنها إنها مملوكة للدولة السودانية،وفي هذا المقام لن أتحدث عن النواحي الفنية التي تحكم العلاقة بين هذه الشركات وهي تتصدى لمهمة توفير خدمة حساسة مثل خدمة الكهرباء،فذلك ليس من شأني لكوني أصلاً لا أفهم فيه،وإن كان قد أثار في نفسي أسئلة ستبقى بلا إجابة إلى أن يبان لنا الأمر ضحى الغد،فالشركات التي تمخضت عنها الهيئة القومية للكهرباء حسب الصحافة السودانية هي الشركة السودانية للتوليد الحراري، والشركة السودانية للتوليد المائي، والشركة السودانية لتوزيع الكهرباء، والشركة السودانية لنقل الكهرباء،وشركة سد مروي،وقد شد انتباهي في الخبر الذي نقلته صحافتنا السودانية،أن الشركات الخمس المذكورة مملوكة للدولة، والذي أعلمه من واقع تخصصي القانوني أن الملكية الفردية لا يصح ولا يجوز أن يصبغ عليها وصف الشراكة،ذلك أن طبيعة الشركة أو الشراكة تقتضي أن يتقاسم الملكية فيها شخصين على الأقل أو أكثر،لذلك كنا نسمع في غابر أزمان الدولة السودانية عن الهيئة العامة للاتصالات، وعن الهيئة القومية للكهرباء،وعن المؤسسة العسكرية، وهلم جر،حال كون مالكها شخص واحد هو الدولة،فلم يألف أهل القانون ولا أهل السودان أن يسبغ على هذه المؤسسات والهيئات وصف الشركة ،وبهذا فإن الأمر لا يحتمل في وجهة نظري سوى أمرين ،أمرين اثنين فقط لا ثالث لهما ،فإما أن تكون هيئة الكهرباء قد خصخصت وطرحت أسمها للاكتتاب والتداول في سوق المال وفي هذه الحالة تكون قد اتخذت شكل شركة المساهمة العامة أو المحدودة صفةً لها تميزها عن غيرها من إدارات الدولة ومؤسساتها،وإما أنها لا زالت مملوكة لها،وبالتالي لا يصح أن توصف بأنها شركة أو شركات تقوم على رأسها جهةٌ قابضة طالما أن ملكيتها لا زالت في يد شخصية معنوية واحدة نسميها في علوم السياسة والقانون "الدولة".
وليكن ،فالنعوت والأسماء والصفات لا تهم ، فالقاعدة الفقهية "أن العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني"، سمها شركة ، ولا زالت مملوكة للدولة، ولمصلحة الحوار نقول أسلمنا مع المسلمين، لكن ما يؤيد وجهة نظرنا بأن أمر الهيئة آل إلى القطاع الخاص أو على الأقل في طريق أيلولته إلى هذا السوق البراق،أن صحيفة سودانايل الألكترونية قالت في خبرها بشأن هذا الموضوع بعد أن أسمت الشركات المنبثقة عن الهيئة ومديريها،قالت الصحيفة ما نصه " على أن تباشر الشركات مهامهما في توليد وتوزيع وشراء الكهرباء وتعمل على أسس تنافسية تقليلاً للتكلفة ورفعاً للكفاءة الفنية والإدارية وخلق بيئة جاذبة للقطاع الخاص للاستثمار في مجال الكهرباء"، وتعليقاً على ذلك بدوري أقول لقد رأينا من قبل،الأسس التنافسية في شركات الاتصالات التي أفرغت جيوب أهل السودان من المال ، بل كان لها القدح المعلى والحظ الأوفر في إنتاج التضخم الذي أصاب العملة السودانية مؤخراً بسبب تصديرها العملات الحرة لخارج البلاد، فالأسس التنافسية في حقيقة أمرها تحتاج إلى سوق رأسمالية ضخمة ومنفتحة،وشروطاً تضمن عدم الدخول في كارتلات واحتكارات تجارية، وهذا أصلاً لا يتوفر في الدولة السودانية التي يجوز لنا أن نقول عنها بشيء من الصراحة ومواجهة الذات أنه ليس لديها موارد مستغلة تخلق القوة الشرائية المطلوبة والموفية لشروط القدرة التنافسية المعافاة من علل الاحتكار والتكتلات النفعية،لذلك فإنَّ تدخل الدولة بدعم قطاعات الكهرباء وقطاعات الطاقة أمرٌ مطلوب ،لا بل أمرٌ واجب، وإذا اتجهت الدولة في غير هذا الاتجاه فإنها بلا شك ستجعل من المواطن ضحية للمضاربين بأموالهم في قطاعات حيوية من مثل مرفق الكهرباء، فالتطوير النسبي في هذا المرفق تم بالفعل،وفي ظل جهود الدولة نفسها ولا تنكر ذلك إلا عينٌ قذئة تتجافى الحقيقة الموضوعية،الأمر الذي نرى معه أن التعلل بتطوير المرفق كسبب لعرضه في سوق الخصخصة هو عذرٌ واهٍ ،وحجة مضروبة ، لا تسندها حقيقة علمية ولا تؤيدها الموضوعية المتحللة من الغرض والهوى،فلو رغبت الهيئة فعلاً في تطوير أدائها وخدماتها فلتضاعف من حوافز العاملين فيها ، ويومها ستجني ثمرة ذلك نهوضاً في هذا المرفق الهام،ولا يغرنك ديكورات إدارات شركات القطاع الخاص ولا إعلاناتها التجارية ومكاتبها الوثيرة التي تعد خصيصاً لاصطياد المسؤولين وإيهامهم بأن لها القدرة على النهوض بقطاعات التنمية والنمو في البلاد، فوالله إن ذلك لا يعدو أن يكون نوعاً من بيع القاذورات المغلفة في أوراق السولوفين البراقة،خاصة في عالمنا الثالث الذي تعاني فيه الدولة من عدم القدرة على خلق الوظيفة المنتجة،ومن ثم عدم القدرة على خلق القوة الشرائية التي تضمن توازنات العرض والطلب والمنافسة في سوق الحرية الاقتصادية.
إن دولة السودان خرجت إلى حيز الوجود دولة رعاية متدخلة، فهي تحمل هموم المواطن الحياتية اليومية من صحة وتعليم ..إلخ وتتدخل فيها تدخلاً مباشراً،وتقوم بأمر معاشه ،تماماً مثل ما تقوم بمهمة أمنها وأمنه وحراسة حدودها من تعدي العاديين، وهذا الدور أملته عليها ظروف موضوعية لا أعتقد أن شيئاً منها قد تغير، من هذه الظروف أنه يستحيل على القطاع الخاص التصدي لمشروعات التنمية الكبرى من طرق وجسور وموارد مائية ومشاريع زراعية وصناعية كبرى وغيرها من المشروعات المهمة للنهضة بالمجتمع السوداني حال كون الحافز لديه للولوج إلى هذه المجالات ضعيف جداً بسبب ارتفاع عنصر المخاطرة وبطء جني العوائد،ومنها أيضاً أن القطاع الخاص عندنا قطاع صغير ومحدود تنقصه القدرة التنافسية اللازمة لقيام التوازنات المفضية إلى استقرار سعر الخدمة عند وضعه الطبيعي المفترض،وهذه المحدودية تسهل مهمة الاحتكار الذي يفتح باب الجشع والطمع في ظل غياب آلية التسعير،لذلك قضي وقدر على الدولة السودانية أن تباشر في مجالات الخدمات المهمة بنفسها وعبر موظفيها،ولتحسين شروط الخدمة وجب عليها تحسين ظروف موظفيها في كافة القطاعات بدلاً عن تعريض خدماتهم إلى استغلال ذوي المال والنفوذ الاقتصادي،وبما لا يعود على المجتمع بالنفع المتوقع من مثل هذه التضحيات، ولنا في قطاعي الصحة والتعليم خير أنموذج ، فقد رأينا كيف أنهما لحق بهما التدهور بعد أن تركتهما الحكومة لسوق الخصخصة والتحرير ، فلا فكرة التأمين الصحي حلت المشكلة، ولا مدارسنا وجامعاتنا الخاصة أنتجت لنا تلك القدرات التي كنا نأمل أن تنافس في سوق العمل على النحو الذي كانت عليه في السابق،حين كانت الدولة تقوم بنفسها على أمر التعليم في كافة مراحله وكافة ضروبه وفنونه ومناحيه، وفي هذا المقام أقول إن لنا في تجارب الآخرين خير عبرة ،فدوننا تجربة جمهورية ساحل العاج مع الشركة الفرنسية التي اشترت من حكومة هذا البلد الأفريقي النامي قطاع الهاتف ، الثابت منه والمنقول، وشرطت لنفسها احتكار تقديم الخدمة، وفي سبيل جني الأرباح أعادت هيكلة قطاع الهاتف على نحوٍ فاقم من مشكلة البطالة،وفي ذات الوقت رفعت سعر الخدمة بدلاً عن خفضها، فهل يا ترى يكون لهيئة كهرباء السودان في ذلك عظة،وكما يقولون "من جرب المجرب حاقت به الندامة"،وفي هذا الصدد تجدني لا أمل تكرار القول بأن شروط التنافس المطلوبة لفاعلية السوق الحر غير متوفرة في بلادنا، لظروف موضوعية تتعلق ببنية الاقتصاد السوداني ذات نفسه، الأمر الذي نتوقع معه انفتاح شهية الاحتكار والهيمنة لغرض جني الأرباح الجشعة في حالة ما إذا تولى القطاع الخاص مشاريع مهمة مثل مرفق الكهرباء،بل قد تؤدي هذه الشهوات الربحية إلى تعطب المرفق نفسه ولنا في قطاع الهاتف خير مثال، فقد تخلف هاتفنا الثابت كثيراً،وأصيب في مقتل،مع أنه فيما يتعلق بأمر التنمية أهم وأولى بالرعاية من الهاتف المنقول،وأعضد زعمي بأن القطاع الخاص لن ينهض بمشروعات التنمية كما نظن ونعتقد بحديثٍ لجيمس جوستاف رئيس برنامج الأمم المتحدة السابق الذي قال " إن العالم النامي ضحية لأسطورة غربية،هي الإيمان بأن القطاع الخاص يمثل البلسم الشافي العالمي وهذا وهم،- نقلاً عن كتاب أمريكا طليعة الاستبداد لروجيه جارودي-،فهلا تنبه القائمون على الأمر إلى ذلك قبل أن تنوح على هيئة النور النوائح وتثكلها الثواكل ،وهلا شمرنا ساعد الجد لمنع مشروعات القطاع العام الحيوية من التورط في سوءات الخصخصة وشرها المستطير،هل يكون ذلك يا ترى ،أم أن قيادتنا في نشوة الفرجة والتحلل من مسئوليات دولة الرعاية ستلهج بقول القائل : دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء،وحتماً سنرى ما في جعبة الأيام القادمات, ولكل حادثٍ حديثه ،والأمل كبير في أن تنحاز حكومة السبعين وسبعة إلى صفوف المسحوقين الغلابة،حال كونهم انتخبوها والمفترض أنها بهمومهم ملتصقة.
والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل ،،،
خليفة السمري – المحامي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق