الخميس، 17 فبراير 2011

احتربت حتى سالت دماؤها .. فلما تذكرت القربى فاضت دموعها


الصادق المهدي ــ اختلفنا معه أو اتفقنا ــ فهو رجل اجتمعت فيه سماحة الطباع، وزينته فضيلة الاعتدال، وتمايز عن غيره بطول النفس، والترفع عن الضغائن والإحن، والنأي بالنفس عن الأحقاد والثأر والانتقام، وكأني به قد ترسم في طريق حياته قول القائل «وسيد القوم لا يحمل الحقدا»، إلى جانب ذلك فإن الرجل قد خبر الحياة فعاقر حلوها ومرها، واتقدت بذلك فكرته ونضجت تجربته، ولهذه الأسباب مجتمعة ظل تعاطيه مع السياسة والشأن العام يحمل في طياته قدراً من الأنأة وضبط النفس، وهذا للأسف ما جعل منه موضع سخرية وتندر من الشانئين، وموضع تَبَرُمٍ وقلق من الناقدين المشفقين، فبعضٌ منا، بسبب موجدته من الإنقاذ لم ير فيه غير أنه من القيادات التي قلَّت حركتها وضعفت حيلتها، وظلت طوال تاريخها السياسي تتذبذب في المواقف، وبعضٌ منا، تمظهر بالموضوعية، حين قال: إن خبرة الشيوخ دوماً تقتل الثورة، حال كونهم يفتقرون لحماس الشباب، وتنقصهم فضيلة التضحية والمغامرة لأجل الوطن، حتى أذكر أن أحدهم استعار بصدد نقاشٍ محتدم عن مهادنة نظام الإنقاذ، على أيام جيبوتي الموءودة، استعار جدلاً أجراه الدكتور طه حسين على لسان طالب يحاور شيخه على طريقة أفلاطون مع تلاميذه في الجمهورية، «إذ قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : ألم تر أن فلاناً ولد حراً، وشبَّ حراً، وشاخ حراً، فلما دنا من الهرم آثر الرق في ما بقي من الأيام على الحرية التي صحبها أكثر العمر !، قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السنين فلم يستطع أن يتحمل الشيخوخة والحرية معاً، وأنت تعلم أن الحرية تُحَمِّل الأحرار أعباءً ثقالاً»، انتهى كلام الشيخ والطالب.
في الأيام الماضيات طالعتنا صحافتنا السودانية، بأعمدة ومقالاتٍ تترى تندراً، وتفيض سخريةً من موقف حزب الأمة الذي جنح فيه للتفاوض مع أهل الحكم في السودان، وكثيرون هم الذين رأوا في هذا التفاهم أنه لا يعدو أن يكون تنفيساً لبركان الثورة ومرجل الغليان، وآخرون جنحوا إلى القول بأن السيد الصادق ومن معه بموقفهم هذا جربوا المجرب، وسيعضون في ضحى الغد أُصبع الندم، فأمر الدعوة إلى التفاوض في نظر هؤلاء هو مجرد تكتيك من المؤتمر الوطني لفك طوق العزلة المضروب عليه من قوى المعارضة، وبعضٌ آخر ذهبت به الظنون إلى أن السيد المهدي وجد ضالته في هذه الدعوة إلى «التخارج» من ورطة العهد الذي قطعه على نفسه واستعد لتنفيذه في يوم مصرع غردون الدخيل، وهكذا ذهبت اتجاهات الرأي في أغلبها تَحْمِل على الرجل في غير هوادة، مع أن في الأمر فسحة لو نظر الناس إلى هذا الموقف بعين الموضوعية التي تضع مصلحة الوطن فوق الإحن والضغائن والصراع، فقل لي بالله عليك ماذا كنت ستقول عمن يطرح مبادئ وشروطاً لخصمه، ثم يرفض مجرد الحوار عليها أو على تنفيذها إن تمت دعوته لذلك؟ ولهذا فإنني بوصفي متابعاً للشأن العام، أجد للسيد الصادق ولحزب الأمة العذر في ما أقدم عليه، بل كنت سأكون من اللائمين إن فعل غير ذلك، لأن تخاذله عن مثل هذه الدعوة يصوره، ويصور المعارضة كلها بأنهم طلاب سلطة، لا طلاب قضايا، وأصحاب مصالح خاصة، لا مصلحة وطن ومواطن، ثم بعد ذلك ما الذي يضير في إجابة هذه الدعوة، فقد ظلت الإنقاذ تحكم البلاد واحداً وعشرين عاماً حسوماً، إلى أن ضاعت وحدتها بذهاب الجنوب، ومع ذلك ما حرك الشانئون قشة، ولا اتخذوا موقفاً مؤثراً إلا لجاجة القول التي لا تنتج طحيناً، فلماذا التعجل وقد عودتنا الأيام أنها دوماً تكشف عن الحق ولو بعد حين، وكما يقول السلف رضوان الله عليهم «الحق قديم» وعند السادة الصوفية أنَّ «من لم يأتِ بلطائف الإيمان يساق بسلاسل الامتحان»، فالظروف التي تمر بها البلاد في هذه الأيام من ذهاب الجنوب، وتأزم اقتصاد الدولة، والخوف على تمزق الجبهة الداخلية، وضغوط الواقع المحلي والإقليمي والدولي وغير ذلك، هي ليست لطائف، وإنما قيودٌ وسلاسلٌ من الكثائف التي توجب على المؤتمر الوطني أن يراجع سياساته في إدارة البلاد، شاء ذلك أم أبى، فإن شروط بقائه مرهونة بالوفاء بمتطلبات المراجعة التي ذكرناها، وهذه في نظرنا ظروف موضوعية تصب في خانة تفجر الأوضاع في البلاد إن لم يتلافاها من بيدهم الحل والعقد، وليس في قبول السيد المهدي الحوار أو تأبيه صلةٌ ببروز تلك الظروف إلى حيز الوجود، وبما أن تجنيب البلاد بحور الدماء والتورط في المزيد من التمزق والتفتت هو واجب وطني ينبغي أن يضعه جميع الحادبين على مصلحة الوطن في حدقات العيون، فإن الحوار القومي الشامل يجب أن يكون هدف الجميع، وأول الغيث قطرة، ومن وجهة نظري أن المعارضة إن كانت تريد للبلاد خيراً فعليها دعم مواقف السيد الصادق المهدي في مطالبه التي وضعها في يد السلطة، وتحديد سقف زمني للتفاوض حولها، والسعي لتوسيع الحوار عبر مؤتمر دستوري يلم شمل كل أهل السودان، من رَفَعَ السلاح منهم، ومن آثر العمل السلمي للتغيير، فالبلاد ما عادت تحتمل مزيداً من التعصب للجهويات، بعد موت الأيديولوجيا في أرض السودان، فالثورة الحقيقية أن يتم تغيير كل السياسات التي عقدت مشكلات البلاد، وليست الثورة هي دلق الدماء، وذبح المهج والأرواح كما يحاول البعض تصوير الأمور، فكم من ثورةٍ أحرقت أرتالاً من الضحايا ولم تحصد منها الشعوب إلا مزيداً من الديكتاتورية والشمولية والتسلط، فلنكن جميعنا دعاة تغيير، وطلاب تصحيح بثورة الجهاد المدني المتحضر، لا بالتخريب وسفك الدماء، وليكن شعار العمل المعارض على رأي السيد المهدي قول البحتري: «احتربت حتى سالت دماؤها.. فلما تذكرت القربى فاضت دموعها»، ففي ذلك صمام أمان للحفاظ على وحدة ما تبقى من تراب الوطن المعذب بصنيع فلذات الأكباد من سياسيي الكيد والمناورات، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق